د. خيرية السقاف
تأمل في صنيع إنسان العصر حيث تنبسط الأرض بين يديه, والبحور والمحيطات, وفوق رأسه سماء بلغها بسهامه فثقبها..
تأمله وهو يركض بلا تأنٍ, ويطير بلا أجنحة!..
إنسان العصر لوَّث البيئة ليس فقط بعوادم الناقلات, وأدخنة الطعام, والوقود, وروائح المبيدات, والطلاء, والعطور المصنّعة, والأتربة تثيرها عجلات تلف, وآلات ترفُّ, ومصانع تدور, وحرائق تنوف..
بمثل ما قضى على خصائصها بقطعه أشجارها, وتغييره مقدراتها, بردم مياهها, وإبادة جبالها, وانتهاك انبساطها, ونتوءاتها, بسلب خضرتها, وتبديد روائها, فثار غبارها, ودكنت أجواؤها, وتصحّرت مسافاتها, وبهتت بهجتها..
وإن ناف بالبناء, وتباهى بالاعتلاء, وتفاخر بالمهارات..
كذلك فعل فلوثها بجعجعته, وصراخه, بمكبراته, وأصدائه, بأنسجة كسائه, وحرائق عادماته,
بدكِّ مسافاتها كراً بناقلاته الثقيلة, وفرَّا بناطحاته المثيرة..
تمادى هذا الإنسان في شأن التلويث فأضفى سلوكه المشين بهدر الدماء فوق ثراها, وبإشاعة الفتن في هوائها, وبدلق النوايا في أنسجة نسيمها, في نورها, وظلامها..
وطافت أحلامه وتكثفت في منجزاته الدقيقة ترافقه حتى في عقر داره, بل تخطف من صغاره أوقاتهم, ونور عيونهم, وتطمس بصائر وعيهم, وسلامة أفكارهم..
الإنسان يلوّث وهو لا يدري, يحسب أن ثوبه النقي, وحذاءه الصقيل, وصوته الرخيم, وكفَّه المصافحة, وفمه المتبسّم, وسعيه الحثيث, ومنجزه المبهر, وهدْره المال, وهذْره المتوالي, ومآدب طعامه, وسباقه الحميم للصدارة, وكل ما يقرأ, وما يتكلم, ما يدوِّن, وما يفصح, ما ينتج, وما يتباهى به, كله يصب في صالح بيئته!!..
فإلى أين هو آخذٌ بهواء مقومات البيئة الصالحة, لا ينتهك جوَّا لأرض, ولا مدىً لفضاء, ولا أمناً لنفوس, ولا إدراكاً لعقول, ولا نقاءً لصدور؟!
وإلى أين هو بنسيج بيئة المحاضن الفاضلة لا تغفل عن غزْل خيوط الأمان النفسي, وتأسيس قواعده المكينة, وفضائله القويمة, ووعيه المُنتج, لذات تؤهَّل لبقاء أجمل؟!
وإلى أين هو بالعلم ونتائجه, والتعلّم ومحاصيله, والطموح اليافع وثماره, والمنجز الآمِن وآثاره؟!
وهذه بيئته إنسان العصر في كونٍ يتنامى, ويتداخل, ويتلاحم, لكنه خليط من صخب, وطمي, وأعاصير..
بيئة فيها هدوؤها منتهكٌ, وكذلك نقاؤها, وسلامها مغتالٌ, وكذلك أمانها !!..
إن إنسان العصر حيث يكون يقفز فوق أعناق الثرى فيعفر هواءه,
ويعود بحفنة من رماد شظايا فضائه..
إنه يلوِّث مع البيئة ذاتَه!.......