عبدالعزيز السماري
تجاوز العلم الحديث كثيرًا من التقاليد والأعراف في المجتمعات على اختلافها، ولم يتوقف الأمر عند تشخيص الأمراض، لكن تجاوزها إلى محاولة وضع حدود لاختلاف مستويات السلوك الفردي والجماعي. فعلى سبيل المثال كانت - وما زالت - النعرة و»شوفة النفس» كما يقال في اللهجة الدارجة سلوكًا شائعًا بين بعض فئات المجتمع، وكانت مرتبطة في أغلب الأحيان بطبقات الثراء ودرجات الجاه باختلافها. ويدخل هذا السلوك في تعريف ما تم التعارف عليه على أنه نرجسية جماعية..
النرجسية الجماعية هي نوع من أنواع النرجسية التي يحس بها فرد تجاه مجموعة أو جماعة يشارك بها شخصيًّا، في حين أن التعريف المعتاد للنرجسية تركز على حب الفرد لذاته، بينما النرجسية الجماعية توصف الأحاسيس نفسها التي يشعر بها الفرد تجاه الجماعة، والتي تعتبر في هذه الحالة كيانًا نرجسيًّا، ويمكن ربطها بالنعرة العرقية، وقد تكون تجاه جماعة خارج المستوى العرقي أو الثقافي، مثل الطائفية أو الأيديولوجيا، أو الفئة الأسرية، ودرجات وصولها أو تاريخها. وهي حالة غير سوية، وتنم عن حالة جماعية، تتسم بالسطحية والجهالة..
في كتابهما «اضطرابات الشخصية في الحياة المعاصرة» ذكر ثيودور ميلون وروجر ديفيس أن النرجسية المرضية كانت حكرًا على أصحاب «الجاه والثراء»، ويمكن أن ترتبط بمستويات أعلى من التسلسل الهرمي للحاجات؛ فالأفراد الأقل حظًّا بالثروة مشغولون للغاية في محاولة البقاء على قيد الحياة، وليس لديهم الاستعداد الاجتماعي والنفسي لكي يكونوا متغطرسين وعاجزين، بينما الأثرياء يبذلون الجهد للخروج من تلك الطبقات من خلال النمط السلوكي.
يعتمد هذا السلوك الشائع على خلفيات وتفاصيل المجتمعات والثقافات. ففي بعض الثقافات يتم تشجيعها رسميًّا من خلال الإعلام، وفي حالات أخرى يتم قمعها، وفي بعض المجتمعات يتم توجيهها ضد الأقليات، وفي حالات أخرى يتم تلطيخها بالبارانويا، ومن ثم ملاحقة من يخالفها أو يزدريها. ولعلها إحدى أهم عقبات التطور المدني في المجتمعات الأقل تطورًا..
من أمثلة النرجسية الجماعية المرضية أو الفئوية التي نعاني منها منذ زمن غير قصير القبلية أو العرقية.. فالبعض مهما كان متخلفًا في حياته العملية والعلمية يزدري الآخرين الذين يختلفون عنه في العرق، ويرى فيهم عرقًا أقل أصالة، وأدنى درجة. والظاهرة الأخرى كانت التدين المسيس؛ فالإخوة المتدينون ما زالوا إلى اليوم يعتقدون أنهم الأطيب والأصدق والأكثر نزاهة، وأنهم جماعة فوق البشر الخطائين، وأنهم منزهون من الخطأ، ولهم حق الولاية على العوام وغير الملتزمين بتعاليمهم..
ومنها أيضًا، وهي منتشرة، تلك الحالة النرجسية التي تستمد فوقيتها الطاغية من الفرد، ولا تختلف كثيرًا عن مفهوم القبيلة، لكنها تستمد مشاعرها بالفوقية من إنجاز فردي لأحد أجدادهم الأوائل في القبيلة أو الأسرة؛ وهو ما يؤهلهم - حسب اعتقادهم - ليكونوا أفضل من الآخرين، وأكثر أصالة وتفوقًا من الأفراد الذين ينتمي أجدادهم لفئة العمال والفلاحين..
وقد عالج الشاعر العربي عروة بن الورد ظاهرة النرجسية الجماعية في عصره، حين قال:
لا تقل أصلي وفصلي أبدًا
إنما أصل الفتى ما قد حصل?
قد يسود المرء من دون أب
وبحسن السبك قد ينفي الدغل?
إنما الورد من الشوك وما
ينبت النرجس إلا من بصل?
قيمة الإنسان ما يُحسنه
أكثر الإنسان منه أم أقل