نجيب الخنيزي
المظاهرات الشعبية الواسعة التي اندلعت في محافظة البصرة (يبلغ عدد سكانها 4 ملايين نسمة) وامتدت لتشمل مدن المحافظات الجنوبية والوسط وصولاً إلى بعض مناطق العاصمة بغداد، هي بخلاف المظاهرات والاحتجاجات الشعبية السابقة حيث لم تعد تقتصر على الشعارات المطلبية المعتادة كمعالجة قضايا البطالة، الفقر والفساد المستشري من الأعلى وحتى الأسفل، وتردي الخدمات (كهرباء وسكن وتعليم وصحة ومياه صالحة للشرب) الأساسية، إلى جانب الوضع الأمي المتدهور.
الشيء الجديد التي اتسمت به هذه التحركات (وقد يكون هذا مصدر ضعف لها) هو استقلاليتها وعفويتها وتلقائيتها بعيداً عن تأثيرات القوى والشخصيات الدينية التقليدية (بشقيها الحكومي والمعارض) على غرار ما حدث في تحركات ومظاهرات سابقة شهدتها العاصمة بغداد وبعض المحافظات الأخرى، حيث كان للتيار الصدري حضور فاعل فيها.
وفقاً للتجربة التاريخية فإن تحرك الأطراف (الجنوب) على أهميته لن يحسم الصراع ما لم يصل إلى العاصمة والمحافظات الأخرى، لكن المغزى المهم هنا هو انفضاض الخزان البشري والقاعدة الشعبية عن التشكيلات المذهبية الحاكمة.
لقد عبر المحتجون عن رفضهم المطلق لنظام المحاصصة المذهبية والإثنية، وللطاقم السياسي الحاكم الذي حكم العراق منذ عام 2006 وحتى الآن والمتمثل في حزب الدعوة والأحزاب المذهبية (الشيعية والسنية) والإثنية، إلى جانب الميليشيات الأخرى، وهو ما تمثل في حرق بعض مقرات تلك الأحزاب والميليشيات.
العراق عموماً والبصرة خصوصاً التي تعوم على بحيرة هائلة من النفط حيث تحتل العراق المرتبة الثانية (بعد السعودية) في العالم من حيث احتياطاتها النفطية، كما يصدر العراق نحو 3 ملايين برميل من النفط يومياً وبلغت عائداتها مئات المليارات من الدولارات على مدى السنوات الماضية ناهيك عن الثروة المائية الهائلة (نهري دجلة والفرات) إلى جانب الثروة البشرية، وهو ما من شأنه تحقيق التنمية والازدهار لعموم الشعب العراقي، ناهيك عن مواجهة التردي الحاد لقطاع الخدمات كافة.
لا شك أن المحتجين فقدوا ثقتهم تماماً في وعود رئيس الوزراء والحكومة المنتهية ولايتها، أو بقرارات البرلمان العراقي حول ضرورة الإصلاح وحل المعضلات المتفاقمة، وذلك في ضوء تكرار تلك الوعود على مدى سنوات بدون طائل.
هناك قانون عام مفاده، حين يتحرك الناس بناء على ضغط تردي أوضاعهم المعيشية والاقتصادية والسياسية والأمنية، وحين يفشل الطاقم الحاكم في الاستمرار بنفس طريقته وأساليبه السابقة، وبالتالي حين تبدأ قاعدته الاجتماعية والشعبية التي يدعي تمثيلها في الانكماش والتقلص، هذا يعنى أن البلد والنظام عند مفترق طرق خطير.
إن الثالوث الخطير الذي يواجه العراق يتمثل في نظام المحاصصة الطائفية وتحكم الأحزاب الإسلاموية والإثنية، إلى جانب الفساد الخطير الذي أدى إلى استيلاء كبار المسؤولين وزعماء الطوائف والإثنيات والميليشيات المسلحة، على مئات المليارات من دولارات النفط، وأخيرا ظاهرة الإرهاب الذي لا يزال يمثل خطراً جاثماً على صدر الشعب العراقي رغم تحرير معظم المدن والمناطق العراقية من سيطرة تنظيم داعش الإرهابي.
الخلاص الحقيقي للعراق وشعبه من وجهة نظر المحتجين والعديد من الساسة والمحللين العراقيين يتمثل في إنهاء نظام المحاصصة الطائفية، وسيطرة الجماعات الإسلاموية والميليشيات المسلحة وبخاصة المرتبطة بإيران، والعمل على قيام حكومة تكنقراط محايدة، وتشكيل مجلس استشاري وقضائي جديد، يأخذ على عاتقه صياغة دستور جديد، بعيداً عن دستور الحاكم المدني الأمريكي السابق بريمر، الذي يتضمن إقامة دولة مدنية حديثة تستند إلى المواطنة المتساوية للجميع في الحقوق والواجبات، وبما يضمن المحافظة على وحدة واستقلال العراق بعيداً عن التدخلات الإقليمية والدولية وفي مقدمتها الولايات المتحدة.