د. صالح بن سعد اللحيدان
من حقائق القول فيما يمكن طرحه في صدد ذي بال مهم ذلكم هو تطرق الكلام إلى مسألة تحكيها مفردة ذات دلالات مهمة متعددة؛ فلعلي قد رأيت كثيرًا من الناس يولدون منها معاني لا تمت إلى حقيقتها بصلة.
هذا لعله يعود غالباً إلى أن السائد من الفهم ذلك الفهم الذي لا يتكئ على نص صحيح وما جعل هذه المفردة سائدة في هذا العصر.
وهذه المفردة اللغوية هي (الرأي). فمن أجل إيضاح مرادها أبيّن المقتضى اللغوي لها، وأن أصلها ثلاثي (رأي). ولعله من الخطأ حذف الهمزة فوق الألف هكذا (راي)، كذلك هم يقولون؛ لأن أصلها في السياق اللغوي والنسق الطرحي من (رأى) مهملة بمعنى نظر وتدبر وفكر، ثم تم استخلاص ذلك كله بما يراه صاحب الرأي من رأي. فمن معاني الرأي - حسبما نظرته وتدبرته - ما يأتي:
الرأي / جودة النظر
الرأي / الصواب في الأمر
الرأي / السداد في الحكم
الرأي / ثمرة التجربة ومحصلة الحكمة
الرأي / دقة الاستنتاج في المسألة
الرأي / محك المشورة ودقة الاختيار
الرأي / استيعاب الفكرة والخروج بنظر سديد
ومن باب آخر جانبه مخالف لما سبق فقد قيل في أسفار الأولين عبر القرون ما يأتي:
لا رأي لحقود، ولا رأي لحاسد، ولا رأي لذي عجلة، ولا رأي لمتكسب، ولا رأي لمداهن، ولا رأي لساعٍ للعلو، ولا رأي لجاهل.. وكان المنصور لا يطلب رأي قريب مهما علت منزلته والثقة به، لا يطلب رأيه في قريبه، وكان لا يأخذ من ريبه ولا السعاية، وأخذ ذلك عنه ابنه (المهدي)، وورثها ابنه (هارون الرشيد)، ولم يأخذ بها (الأمين) - عفا الله تعالى عن الجميع - وأخذ ذلك عنهم (المأمون) لكن بشيء من عدم الورع، وقد كان عنده عجلة في بعض الأمور.
قلت: وجودة الرأي وقوته وامتيازه على ثلاث حالات:
- إما موهبة زائدة على الفطنة.
- وإما مكتسبة لاقت محلاً جيداً.
- وإما مكتسبة من خلال تجربة وطول القراءة مع شيء مع عدم القطع.
وأصل الرأي أنه من صفات العقل المحنك الخالي من الشوائب ما لم يدخله الهوى أو سوء التربية الباكرة أو اعوجاج القراءة.. فحينئذ يكون الرأي هنا من صفات العاطفة. وهذا النوع من صفاته أنه معاند، وهو شديد التمسك بما يراه، ويميل غالباً إلى السخرية في طرحه ونقاشه، والإقذاع. ومن أبرز صفاته المداهنة لكن بشيء من اللطف حتى لا يفطن إليه حتى لعله يغير ما يراه إذا رأى هذا سبيلاً لحياته.
وقد واجهت نفراً من بعض هؤلاء فتبيّن لي بعد نقاش في الأعماق وخبايا اللاشعور أن هناك معاناة شديدة لموقف أو مواقف؛ فكنت أحرص على ترك النقاش في المسألة المطروحة إلى أصل كونه يرى هذا الرأي فيتبيّن له حقيقة نفسيته وسبب ما يراه وإصراره؛ فيرتاح كثيراً. يتبين لي هذا من تغير وضعه الفسيولوجي، وإن كان بعضهم لديهم عزة نفس فيمتنع لكن بشيء من التماسك.
ومن جانب آخر أرى ضرورة الإشارة إليه فقد يكون الرأي عند عامي لا يدري من العلم شيئاً، أو قد يكون عند صبي هو بعد لم يشب عن الطوق، لكن لديه من الحس والصفاء وشفافية الفطنة ما يجعله يرى رأياً قد يعجز عنه الفحول.
وقد مثل هذا عمرو بن أبي سلمة والبراء بن عازب ومحمود بن الربيع والنعمان بن بشير؛ إذ إنه قد روى حديثاً ووعاه، وتلقته الأمة عنه بالقبول وهو ابن ثماني سنين، وأطبق علماء أحوال الرواة والجرح والتعديل على قبوله.
ومثله ابن عباس؛ إذ قد روى وجلس للعلم في سياسة العبادات وسياسة المعاملات هو ابن أربعة عشر عاماً، وقد توفى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو ابن ثلاثة عشر عاماً.