أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: تَبيَّن في السبت الماضي: أنَّ المخبرَ عنه في الآية الكريمة ليس هو عمومَ العباد؛ وإنما هو عبادٌ بخصوصِ وصفٍ هو إيراث الكتاب والاصطفاء؛ وإذن فالضمير راجع إلى المصطفين بلا شكٍّ؛ وهم طردُوا تفسيرَ القرآنِ بالقرآنِ بإطلاقٍ كما حكى ذلك عنهم ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى بقوله: «قالوا: وأيضاً فمن تدبَّر الآيات وتأمَّل سياقَها: وجدها قد استوعبتْ جميعَ أقسام الخلق، ودلَّت على مَرَاتِبِهم في الجزاء؛ فذكر سبحانه أنَّ الناسَ نوعان: ظالمٌ، ومحسن.. ثم قسَّم المحسن إلى قسمين: مقتصد، وسابق، ثم ذكرَ جزاءَ المحسن؛ فلما فرغ منه ذكر جزاءَ الظالمِ؛ فقال:{وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُم مِّنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ}(36) سورة فاطر، وقال:{وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِّن دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} (29) سورة الأنبياء؛ فذكر أنواعَ العباد، وجزاءَهم.. قالوا: وأيضاً فهذه طريقةُ القرآن في ذكر أصناف الخلق الثلاثة كما ذكرهم الله تعالى في سورة الواقعة والمطففين وسورة الإنسان؛ فأما سورة الواقعة فذكرهم في أولها وفي آخرها؛ في أولها {وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً (7) فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (9) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} (سورة الواقعة 7-12)؛ فأصحاب المشأمة هم الظالمون؛ وأما أصحاب اليمين فقسمان: أبرار وهم أصحاب الميمنة، وسابقون وهم المقربون.. وفي آخرها {فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ (89) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (91) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ}(سورة الواقعة 88-94)؛ فذكر حالهم في القيامة الكبرى في أول السورة، ثم ذكر حالهم في القيامة الصغرى في البرزخ في آخر السورة؛ ولهذا قدَّم قبلَه ذكرَ الموت ومفارقة الروح؛ فقال: {فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) وَنحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ (85) فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (سورة الواقعة 83-87)، ثم قال: {فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ}.. إلى آخرها..وأما في أوَّلها فذكر أقسام الخلق عقب قوله:{إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (1) لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ (2) خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ (3) إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (4) وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا (5) فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا (6) وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً}(سورة الواقعة 1-7) وأما سورة الإنسان فقال: {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا} (سورة الإنسان 4)؛ فهؤلاء الظالمون أصحابُ المشأمه، ثم قال: {إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا} (سورة الإنسان 5)؛ فهؤلاء المقتصدون أصحاب اليمين، ثم قال: {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا} (سورة الإ،سان 6)؛ فهؤلاء المقربون السابقون؛ ولهذا خصهم بالإضافة إليه، وأخبر أنهم يشربون بتلك العين صرفاً محضاً، وأنَّها تمزج للأبرار مزجاً كما قال في سورة المطففين[قال أبو عبدالرحمن: الأفصح (المطففون) على الحكاية] في شراب الأبرار {وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ}(سورة 27-28).. إلى آخر كلامهم.
قال أبو عبدالرحمن: كلَّ هذا دَفْعٌ بالراحِ، وخَلْطٌ وَمَلْطٌ في غير محل النزاع من آياتٍ لا علاقَة لها بخصوصِ الظالمِ نَفْسَه في سورة فاطر؛ فهذا مِن أهْلِ الجنَّةِ بدْأً؛ وَهُم الظالمُ نفسَه، والمقتصدُ، والسابِق؛ وكل هذا لا يمنع مِن مجيىءِ الظالِمِ نفسَه مِمَّن حكم الله عليهم بأنهم من أهل النار في آياتٍ أخرى؛ وسيكون ختامُ هذا البحثِ بعد أسابيع جَلِيّْاً واضحاً حاسماً إن شاء الله تعالى.. وإلى لقاءٍ في السبتِ القادِم بحول الله, والله المُستعانُ.