الجزيرة الثقافية - سعيد الدحية الزهراني:
السبت 17 رمضان 1439، الموافق 2 يونيو 2018م سيمثل هذا التاريخ علامة فارقة في مسيرة الحقل الثقافي السعودي.. حيث صدر فيه أمر خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز -يحفظه الله- بإنشاء وزارة الثقافة..
القرار لم يكن مفاجئاً فحسب.. بل كان خارج حسابات التنبؤ والتوقع والتكهن والتفكير أصلاً.. خصوصاً بعد إنشاء الهيئة العامة للثقافة.. إلى جانب انصراف التركيز الرسمي العام للعناية بقطاعات الاقتصاد والتنمية والتحديث الإداري وملفات السياسة ونحوها.. إلا أن قيادتنا الرشيدة تبرهن في كل مرة على أنها تتقدم الوعي المجتمعي حيال ما يحقق الخدمة الوطنية بمختلف تفاصيلها بما ينعكس على المواطن والوطن بالإيجاب والعطاء والإنماء..
إنشاء وزارة خاصة بالثقافة بمفهومها الشامل للمعارف والفنون والآداب والتراث والآثار والفلكلوريات وغيرها.. يأتي ليبلور أهداف رؤية المملكة 2030م في شقها الحضاري وفق التصور الذي تطرحه برامج الرؤية الطموحة.. وهو الجانب الذي يعول عليه المشتغلون بالهم الثقافي أن يحقق تطلعاتهم بعد عقود من الركود الثقافي.. فالواقع الثقافي اليوم يحتم على المؤسسة الثقافية الرسمية ممثلة بوزارتنا الوليدة «وزارة الثقافة» أن تتبنى مسارات عمل جديدة تضمن تحقيق قدر كبير من التناغم مع معطيات المرحلة واشتراطاتها وذهنية المتلقين فيها.. بعيداً عن أشكال الأداء التقليدية التي لم تعد صالحة لتقديم منتج ثقافي عصري حيوي.. أجيال اليوم بفعل المعطى الاتصالي التقني الإلكتروني الجديد باتت أكثر تطلباً وأعلى سقفاً أوسع تصوراً.. وفي الحين الذي تفشل فيه مؤسسة الثقافة الرسمية في القرب من هذه الأجيال الجديدة.. فهي في حقيقة الأمر ستكون قد خسرت رهانها الأهم نحو تأدية رسالتها الثقافية والوطنية.. ما يجعل من تحديث مؤسسات الثقافة التقليدية وعصرنتها أمراً حتمياً.. ومهمة تحديثها تقع على كاهل الوزارة الوليدة.. وهي الجديرة بتلك التطلعات، خصوصاً حين نعلم أن سمو وزير الثقافة شاب طموح وعملي ومنظم ومعني بالثقافة والحضارة والآثار والمعرفة.. وله تجربة مميزة في هذا السياق عبر معهد مسك للفنون والهيئة الملكية للعلا والهيئة العامة للثقافة وغيرها..
ما قبل حقيبة الثقافة الوزارية..
كانت الولادة يوم 28 صفر 1424هـ حين صدر قرار ضم عدد من الأجهزة الثقافية إلى وزارة الإعلام على أن يُعدل مسمى الوزارة ليصبح «وزارة الثقافة والإعلام».. من حينها والمشهد كاملاً لا يعرف سوى فرحة تلك الولادة.. أما منجزات التأسيس والانطلاق الحقيقي الخلاّق.. فبقيت في مدار الحلم الذي يعد قاسماً مشتركاً يسكن أرواح المثقفين ويؤثث إنتاجهم ومنجزاتهم.
كأن فكر المأسسة تحجّر عند المسمى فقط.. دون أن تتشكل الرؤى وتتخلّق الآليات والتشريعات والتنظيمات.. كل ما تم يُلخص في ضم نشاطات ثقافية من عدة جهات مثل الأندية الأدبية من الرئاسة العامة لرعاية الشباب.. ومعرض الرياض الدولي للكتاب من وزارة التعليم العالي سابقاً.. والمكتبات العامة من وزارة المعارف سابقاً.
كانت وكالة الشئون الثقافية بوزارة الثقافة والإعلام.. تنهض عبر عدد من الإدارات العامة؛ الإدارة العامة للنشاطات الثقافية.. والإدارة العامة للمكتبات.. والإدارة العامة للتراث والفنون الشعبية.. والإدارة العامة للإعلام والنشر.. والإدارة العامة للأندية الأدبية. وبنظرة عامة يظهر غياب حجرات قلب الثقافة الأربع عن الواقع الثقافي جملة وتفصيلاً -وهنا أعني غياب الفعل الملموس والمحسوس الذي يدركه الجميع ولا ينكره أحد- عدا حجرة الأندية الأدبية التي ستخصص لها مساحة مناسبة من هذه القراءة.
«حوسة» الأندية الأدبية
حجرة الأندية الأدبية في قلب الثقافة الضعيف.. مليئة بصراخ الجميع -مسؤولين ومثقفين- لدرجة بات عندها مجرد الاستماع إلى ذلك العويل مضيعة للوقت.. وكأن فكر الإدارة عجز عن أن ينظم من يفترض أن يكونوا أقرب الخلق إلى التنظيم لاسيما وأنهم فئة المثقفين التقدميين. فمن فجر بزغ باكراً بالانتخابات إلى تعيين «تأبّدت» عبره الوجوه.. إلى انتخابات عرجاء تالياً.. ثم مضى الحال من لائحة إلى لائحة.. ما بين تمديد إلى تجديد.. وآخراً وليس أخيراً في مسلسل «حوسة» الأندية الأدبية شكاوى ودعاوى واتهامات وتراشقات ومحاكم.. حتى لم يعد أحد يعرف أحداً بمقدوره الحديث عنها بإلمام شامل.. الذي أعرفه أن الأندية الأدبية أصبحت منطقة تثير «التوتر» حتى وهي جملة في حديث عابر لأي أحد.
جمعية الثقافة والفنون..
يتيمٌ كريم رغم الفاقة والتقشف!
حال جمعية الثقافة والفنون ليس بأحسن من «حوسة» الأندية الأدبية.. الفارق أنها تكافح بعصامية «رغم التقشف» وضيق ذات اليد أيضاً.. لتصنع شيئاً جميلاً على خشبة مسرح أو عبر مرسم فنان تشكيلي وقليلاً من «نغم خائف» يرعبه صراخ الأوصياء.. يضاف إلى هذه الأسرة الوادعة فرق الفلكوريات الشعبية.
ويبقى الفقر عنواناً عريضاً لأسرة الجمال في مختلف مناطق المملكة.. تشاهده كلما مررت بفرع من فروعها.. الغريب أن اتصالها بالناس والجهات يفوق الأندية الأدبية التي لا يعرفها سوى قلة القلة.. جمعية الثقافة والفنون هي أيضاً لم توفق إلى انتشال نفسها حتى حين كان رئيسها في إحدى الفترات بمرتبة «وزير».. القاسم المشترك بين رؤسائها جميعاً هو الوعود التي يخرج المتابع منها بـ(الله كريم)..
الجمعيات المتخصصة.. إعلان عن مفقود..
الجمعيات المتخصصة هي تكوينات أشهرت في عهد وكيل الثقافة الأسبق الدكتور عبدالعزيز السبيل مثل جمعية الفوتوغرافيين وجمعية المسرحيين وجمعية التشكيليين.. ابتهج الناس بها كما لم يبتهجوا من قبل.. قيل إنها شكل حضاري برّاق يبلور ما يعرف بمؤسسات المجتمع المدني... إلخ.. من ذلك الحين وهي مفقودة وعلى من يجدها الاتصال بذويها..
أتذكر فيما أتذكر أن غسيل بعضها ملأ الصحف.. مجالس إدارة لم يتفقوا وجمعية عمومية لم تكتمل وسخط عام من الجميع.. وتشكي مفزع من عدم الدعم وعدم وجود مقرات وعدم وجود نظام أصلاً.
معرض الكتاب.. الأعلى مبيعاً فقط ولا فضل لأحد..
منذ أن تلامس أذنك جملة «معرض الرياض الدولي للكتاب» عليك أن تستعد لسماع هذه العبارة بألف طريقة: (الأعلى من حيث المبيعات).. وكأن هذه المعجزة لم تكن لولا جهودهم.. مع العلم أنها نتيجة طبيعية أفرزها المجتمع تبعاً لظروف اقتصادية متعافية ولله الحمد.. لكن حين توجه دفة الحوار إلى شكل التنظيم وغياب فكر الاستثمار والتطوير الحقيقي ستجد سيل المبررات ينهمر بطريقة تبرهن على فداحة الترهل فضلاً عن أن تدفع التهمة أصلاً.
برنامج ثقافي لم يرضَ عنه المتابع منذ أن انتقل المعرض إلى وزارة الثقافة والإعلام من وزارة التعليم العالي سابقاً.. تذمر مستمر من سوء التنسيق مع الناشر الخارجي والداخلي ليس أحسن حالاً منه.. تجاوزات وتدخلات تتعلق بحريات الناس من بعض الفئات.. عدم تقبل إدارة المعرض لخطوة الاستثمار وقبول الرعايات المعمول بها في مختلف أجهزة ونشاطات الدولة.. وبالتالي تطوير المعرض تطويراً شاملاً يليق بمكانة المملكة ويليق بالقارئ الذي جعل منه الأعلى من حيث حجم المبيعات.. حتى هذه المعجزة لا تستطيع إدارة المعرض الجزم بها لأنها في حقيقة الأمر مجرد تخرصات.
نثريات حول قطاع الثقافة.. وبعض الآمال..
حتى بعد أن تشكلت وكالة الوزارة للشئون الثقافية ضمن وزارة الثقافة والإعلام سابقاً.. بقيت نشاطات ومهمات ثقافية أخرى لدى جهات أخرى مثل الملاحق الثقافية في السفارات وكذلك المشاركات في معرض الكتاب الخارجية التي لا تزال في جزء منها تابعة لوزارة التعليم «التعليم العالي سابقاً».. ومثل المهرجانات الكبرى «الجنادرية وسوق عكاظ».. والسؤال كيف يمكن أن تعالج وزارة الثقافة حالياً مثل هذه الاتجاهات سيما والوطن يعيش مرحلة تصحيح شاملة دشنها خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز وسمو ولي عهده الأمين صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان -يحفظهما الله-.
أيضاً كان هناك أقاويل عن ضعف الميزانية المخصصة لقطاع الثقافة ما يجعلها أمام حالة من العجز عن النهوض بما ينتظر منها.. ولعل الحقيبة الوزارية الحالية قادرة على تجاوز العجز المالي عبر ما يخصص لها من ميزانية الدولة وعبر تفعيل فكر الاستثمار الثقافي وتنشيط الاقتصاد الفني وابتكار آليات توفير موارد ذاتية عبر الشراكات والرعايات وعبر فلسفة تحويل الثقافة إلى صناعة بمفهومها الربحي الإنتاجي..
وكذلك كانت تسود حالة من الضبابية في العلاقة التي تربط الوكالة بالمؤسسات التابعة لها.. هل هي إشرافية وما هي حدود هذا الإشراف وما شكله؟.. أم أنها توجيهية؟ ولعل وزارة الثقافة تختط مساراً واضحاً يحدد شكل العلاقة فيما بينها وبين المؤسسات التابعة لها..
أيضاً هناك مطالب بأن يكون لوزارة الثقافة دور واضح وملموس في معالجة حالات المثقفين اقتصادياً وصحياً.. مثل تأسيس إدارة تعنى بشئون المثقفين ممن يحتاج إلى متابعة علاجية خاصة وكذلك من يمر بظروف اقتصادية معينة ونحوها.. إذ من الممكن أن تشكل لجنة أو إدارة خاصة بهذا الشأن تدرس وتقرر ما يحفظ قيمة المثقف ومكانته في مثل تلك الظروف.
هناك أيضاً ما يتصل بدعوات المثقفين للمناسبات الثقافية المختلفة وكذلك التمثيل الثقافي خارجياً.. إذ يشتكي المثقفون من عدم الإنصاف والميل إلى العلاقات الشخصية في ظل غياب آلية واضحة ومحددة تضبط هذا المجال.
فاصلة حول حواضن الثقافة الجديدة وجيلها الجديد:
حواضن الثقافة الجديدة أنتجت رموزها.. وهي رموز جادة وعميقة -بعيداً عن نجوم الشعبوية الجديدة التي أفرزتها مواقع التواصل الاجتماعي-، تلك الرموز لديها ما تقدمه بصورة مغايرة عن سياقات المنتج لدى حواضن الثقافة التقليدية.. يحضر في هذا السياق منتجات مبادرات أرامكو المعرفية.. أيضاً ملتقيات مؤسسة مسك الخيرية.. وكذلك عدد من النشاطات التي برزت مؤخراً حول مسابقات الأفلام القصيرة ونحوها..
الإشكالية الرئيسية لدى حواضن الثقافة التقليدية، أنها خضعت على مدى عقود إلى عملية برمجة نمّطت أداءها حتى باتت (ثقافة)، الأمر الذي جعل من محاولة التطوير أمراً في غاية الصعوبة.. أمام محاضن الثقافة التقليدية فرصة أخيرة للحياة.. تتمثل في إيجاد روح أداء وثّابة ومتجددة ومتجاوزة لركام ما تخشّب لديها من ثقافة عمل.. هذه الروح يجب أن تنبع من الإدارة العليا المحركة لجل تلك المحاضن.. وهي هنا وزارة الثقافة..
أحيي محاضن الثقافة الجديدة ورموزها ومؤسساتها.. وأرجو أن تستفيد منها المحاضن التقليدية.. فليس من المعيب أن يتعلم الأستاذ من تلميذه.. المعيب أن تموت متخشباً وأنت لا تزال تعتقد بأنك على قيد الحياة..
إن الواقع اليوم يحضر بأداوت ومهارات يجيدها الجيل الشاب.. وهو جيل مطلع وقارئ ومتجاوز لحدود التصور التي يراه المثقف القديم في إطارها.. ومن المهم أن يحضر هذا الجيل الشاب في صميم الأداء المنتظر من وزارة الثقافة تخطيطاً وتنفيذاً.. وإلا فسنمضي في تكريس تلك البروج العاجية المهلهلة التي نمّط المشتغلون بالثقافة ذواتهم فيها.. فيما تمضي عجلة الحياة والتأثير دون أن نشعر.. والخاسر الأبرز في هذه العملية هم أجيال الوطن وثقافة الوطن..
محاولة للحل.. المراكز الثقافية أولاً..
ستجود العقول بالأفكار والرؤى والمقترحات.. المهم هل من مستجيب؟..
أحد الحلول التي لا يتجرأ أحد أن ينسبها إلى عقله فقط.. يتمثل في تكوين مظلة شاملة تضم مختلف مؤسسات الثقافة وأنشطتها وفروعها تحت مسمى (مراكز الثقافة والفنون مثلاً) تحوي المسرح ومراسم الفن التشكيلي وتفريعاته والمكتبات العامة وفنون التصوير والموسيقى والفلكلوريات وتكوينات الأدب وما استجد من فنون أدائية وثقافية لمهارات يتقنها جيل اليوم ويحتاج إليها ويبتهج به ويؤثر ويتأثر من خلالها.. وذلك بميزانيات يحكمها حجم نشاط كل مركز.. وبآليات واضحة ومحددة وصريحة.. وهي بهذا تكون قد جمعت بين الثقافة الصلبة والثقافة الناعمة.. حيث تتمثل الثقافة الصلبة في الآداب وأجناسها المعروفة من سرديات القصص والروايات وفنون الشعر الفصيح والمسرح النخبوي ومعارض الفن التشكيلي ومذاهبه المتعددة والنقد بمساريه الأكاديمي والانطباعي إلى جانب الإنتاج التأليفي للكتب والترجمات والسلاسل المتخصصة ودواوين الشعر والمجاميع القصصية والروايات والمسرحيات ونحوها.. أما الجناح الآخر فهو جناح الثقافة الناعمة تلك التي تعبر عنها الفنون الأدائية المرئية والمسموعة من سينما وموسيقى ورقصات وحفلات غنائية وأمسيات الشعر الشعبي الجماهيري .. وهي ثقافة جماهيرية شعبية تحظى بالقبول والتفاعل العام.. ورغم حداثة حضورها في المشهد السعودي إلا أن مهمة تجذيرها في المجتمع بصورة تخلق منها ثقافة حياة ومجتمع يتطلب رسم رؤية محددة وواضحة عبر آليات منظمة تعي الهدف وتحترف التنفيذ..
في تقديري هذه الخطوة هي الإجراء الأول الذي سيمهد لتطوير الثقافة عبر وزارتها الوليدة ووزيرها الأمير الشغوف بالثقافة والمعرفة والحضارة والفنون..
فلسفة الاستثمار الثقافي
واقتصاديات الثقافية..
الثقافة ليست عباً.. الثقافة صناعة تدر المال وتتطلب الفكر الاستثماري.. والثقافة أيضاً ليست مكمن ضعيف يعاني العوز والفقر.. بل قوة من شانها أن تحقق من الأهداف السياسية والشعبية والأممية ما تعجز عن تحقيقه القوى الأخرى.. المهم هو كيف نبادر إلى استمثال هذه الرؤية لتحويلها إلى واقع تطبيقي عبر خطط وبرامج جادة وملتزمة وطموحة.. وهذا هو التحدي الأهم أمام وزارتنا الوليدة وسمو وزيرها المتوهج والوثاب.. مع ضرورة الاعتراف بأن الغايات الثقافية ليست سريعة التشكل بل تحتاج إلى مدى زمني لتعطي أكلها وتحقق أهدافها..
فما ليدنا من ثروات ثقافية تمثلها المواقع الآثارية مثل مدائن صالح والفاو والأخدود ومواضع السيرة النبوية ومواقع التاريخ الإسلامي وحفريات الحضارات القديمة تمثل في مجملها حقل نقط عصري لا ينضب بل يزداد أهمية كلما تقدم الزمن.. ناهيك عن التنوع الثقافي والفلكلوري والفني في مختلف مناطق المملكة..
آمل أن نرى مفهوم استثمار الثقافة وصناعة رموزها ورمزياتها مبلوراً بوعي واحترافية وإيمان عميق بأن ما لدينا من ثروة ثقافية متعددة متمددة كفيل بأن يمنحنا زهو القيادة والريادة..