زكية إبراهيم الحجي
رغم كثرة ملاحم العشق في آداب الشعوب وقصصها.. إلا أن قصة مجنون ليلى تكاد تكون القصة الأكثر انتشارًا والأكثر حظوة بالاهتمام في الآداب والفنون عند العرب وغير العرب.. فمن يقرأ الملاحم والقصص القديمة عند بعض الشعوب، وضمن السياق التاريخي، ستعتريه دهشة استفهام.. كيف أورقت قصة العشق تلك في رياض الأدب غير العربي، وعرفت طريقها إلى قلب وعقل ووجدان كل متذوق للقوافي العذاب؟
تذكَّرتُ ليلى والسنين الخواليا
وأيام لا نخشى على اللهو ناهيا
ويوم كظل الرمح قصَّرت ظله
بليلى فلهاني وما كنت لاهيا
بيتان من الشعر، هما من أعذب وأرق الشعر العربي، يصوران حالة المجنون العاشق قيس بن الملوح الذي أودى به العشق والحرمان إلى الجنون فساح في البراري والقفار باكيًا ومتغزلاً بليلى العامرية التي حُرم من الزواج منها؛ لأنه ذكرها في شعره.. وعار كل العار أن يكون ذلك عند العرب.
قصة ليلى والمجنون لم يكن تأثيرها مقتصرًا على الأدب العربي، بل تعداه إلى الأدب الفارسي والتركي والفرنسي، ونالت اهتمامًا بالغًا على اختلاف اللغات.. فصيغت قصص وأبيات شعرية مستوحاة من النسخة العربية الأصلية، وإن اختلف مضمونها من شاعر لآخر، ومن ملحمة إلى أخرى.. ولعل القواسم المشتركة بين الآداب الإسلامية بمختلف اللغات منذ العصور التاريخية القديمة أوجدت أرضًا خصبة لتمازج مشترك بين ثقافات الشعوب.
كنز من كنوز التراث الأدبي، يصور العشق والتمايز الطبقي والتناقض والرحيل من المرابع خشية العار، ويوثق لطبيعة حياة شعوب، عاشوا في العصور القديمة. ولعل كتاب «مجنون» كان ترجمة لملحمة مجنون ليلى الفارسية التي كتبها الشاعر الفارسي «نظامي».. ملحمة مستوحاة من الملحمة العربية «مجنون ليلى». ويشير الكتاب إلى أن علماء الآثار عثروا على رقم طيني بابلي، نحتت عليه أسطورة مشابهة تمامًا لقصة مجنون ليلى العربية إلا أن الاختلاف يتجسد في النهاية؛ إذ يتزوج قيس المجنون البابلي بليلاه؛ ليسأم منها بعد فترة؛ ويتزوج أخرى؛ فتموت الأولى كمدًا.. كان المجنون لدى الشاعر الفارسي»نظامي» شاعرًا عذريًّا بارعًا مثلما هو في أصل النسخة العربية.
كان للمسات الرقيقة العذبة والصور البيانية التي أضافها شاعر فارس «نظامي» إلى حكايات المجنون الفارسي أكبر تأثيرًا على أكثر شعراء فارس وتركيا أيضًا؛ فاندفعوا إلى نظم قصائد تروي ما يشابه حكاية مجنون ليلى العربية.
ولعل قصة مجنون ليلى كانت أبرز ما تناوله أدباء الغرب من الأدب العربي، وقد وضحت آثارها في شعر كثير من شعراء وأدباء أوروبا المعاصرين كما أشار إلى ذلك المستشرق الفرنسي «أندريه مايكل» الذي تعمق في الأدب العربي، وكان يشغل منصب مدير معهد لغات الهند والشرق وشمال إفريقيا في جامعة باريس.. يقول المستشرق أندريه: قادتني المصادفات والشغف بأدب الحب العالمي إلى الاهتمام بأسطورة مجنون ليلى العربية.. وأسطورة تعتبر من أجمل أساطير الغرب في العصر الوسيط، هي قصيدة «مجنون إلسا» المستوحاة من مجنون ليلى العربية.
ثقافات الشعوب هي ثقافات متنوعة ومتلاقحة على الدوام.. ولكن يبقى الأدب العربي بجميع فروعه كنزًا ثمينًا لكل عشاقه على اختلاف جنسياتهم.