د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
لم يعد المتنبي مالئَ الدنيا وشاغل الناس، بل لم يعد فردٌ أو أفرادٌ «ثقافويون» قادرين على الاتكاء خلف هذه اللافتة؛ فقد توارى الشخصُ خلف النص، وتكاثرت النصوص أمام الشخوص، وأضحى الكُتّابُ دون قراء والمحاضرون بلا حضور، وصار المشهد هلاميًا لا حدود فيه لقيمة ولا وجود لقامة، وتساوى الغارب بالسنام،وجاءت حكاية «الأرقام « ومصطلح «التابعين» مَدخلين جديدين لم يُعرفا في أزمنة الثقافة القريبة والبعيدة، وباتا -بالرغم من ذلك- مدار التقويم في عوالم التهويم، وانتقل فئامٌ من مستوى اجتماعي واقتصادي إلى مستوىً آخر بسبب الأصفار والخانات، واستعصى الوسطُ الثقافي عليهم، ولا يُعلم: هل وكم سيصمد وإلام سيؤول الحال!
** والاستفهام الاستباقي الآن: هل يمكن تفصيل الثقافة على مقاسٍ واحد «شخصي أو موضوعي» بأن يُدَّعى أن فلانًا رمزٌ يستحق الاحتذاء، وأن كِتابًا أو طرحًا أنموذجٌ للاقتفاء؟ ولأن الإجابة نفيٌ مشددٌ؛ فلماذا يُحرج بعضٌ أنفسَهم بتخيل تسنم المشهد اتكاءً على تأريخهم أو أعمارهم أو واقعهم المجتمعي والوظيفي مع أن طول مُقامهم لا يعني غير رقمٍ مجردٍ دون دلالة إذا لم يصحبه تطورٌ معرفيٌ موازٍ يضمن لحضورهم التجدد والتمدد؟ ولأن الحديث «هنا» ليس عن واحدٍ أو اثنين بل عن عشرات يُوسِّطون الوسائل الرقمية لإحراق بخورٍ في فضاءاتهم خشية أن ينفضَّ السامر مِن حولهم؛ فهل البقاء مرتهنٌ بالثناء أم بالعطاء؟ وهل الإعلام الفردي كافٍ لتقرير مكانٍ أو مكانة؟ وهل سيصبح الرقمُ ذا أهمية لدى المثقفين كما غيرهم؟
** وبتجربةٍ شخصيةٍ أنشأ صاحبكم صفحةً مؤقتةً في «تويتر» باسمٍ مجرد لا يشير إلى شخص بل إلى موضوع يصلح ترويسة زاوية أو عنوان مقال دون أن يكتب فيها حرفًا واحدًا أو يتابعَه شخص واحد أو يُدوِّر تغريدة أو يردَّ على أخرى، واختار لها مئةً وبضعة عشر اسمًا جديدًا لم يسبق له أن عرفهم أو عرف عنهم، واختص بالنسبة الأكبر شبابًا في عقود سنيهم المبكرة عليهم سيمياء الاهتمامات الثقافية ولا يزيد عدد متابعي أكثرهم على مئاتٍ أو آلافٍ، وظل مراقبًا عن بعد؛ يقرأُ ويتأمل ويحاكم ويحكم، واكتشف -بعد مضي بضعة أشهر من الصمت الإيجابي- أن هذا الحساب يأخذ من وقته ويُضيف إليه أضعاف ما تأخذه حسابات المشاهير الأنويين والمؤدلجين المتورطين وذوي الإملاءات والامتلاءات.
** وعبر وسائط موازيةٍ كـ»فيسبوك وسناب شات ويوتُوب» آثر متابعة من يُرون صغارًا في حجم التأثير ولا وجود لأسمائهم في المشهد الكبير فوجد عند من اصطفاه منهم ما لم يجده لدى سواهم من عمق الموضوعات ومرجعية الاستدلالات ورقي النقاشات ومراعاة الذائقة الجمعية، وأيقن أن المَوازين ستتبدل -يومًا قريبًا أو بعيدًا- لتُثقل كفة المتوارين ممن لا يقصدهم المُوقِّعون ولا تلاحقهم العقود.
** للغرباءِ لذائذُهم.
* للمتنبي: وسوى الروم خلف ظهرك رومٌ.. فعلى أي جانبيك تميلُ