د. فوزية البكر
انتهت الحفلة العالمية الكبرى التي شاركت فيها أمم العالم كافة وعن طوع واختيار، وذلك بفوز الفريق الفرنسي الماهر على غريمه الكرواتي المتميز مع ما حمله هذا النصر للفرنسيين كأمة من مكاسب لا تحصى بين سياسية ووطنية جمعت كل الشعب الفرنسي على اختلافه ليصبح أمة واحدة نسيت خلافاتها العرقية والمعيشية والتفجيرات التي ملأت أجواءها لسنوات لتتفرغ للفرح بالفوز، هذا عدا عن العوائد المالية الهائلة التي ستعود من السياحة ومن صرف سكان فرنسا المبسوطين أو عوائد اللاعبين وفرقهم التي تقدر بمئات الملايين من اليوروهات عبر صناعة كاملة لقطاع كرة القدم الذي يدر ذهبا مع الفرق الناجحة.
الأبعاد الثقافية والاجتماعية لكرة القدم هي أكثر من أن تحصى، ويكفي أن معظمكم بلا شك عاش أجواء اجتماعية بين أهله أو أصدقائه أو في أحد مقاهي كرة القدم التي تعرض المباريات مع ما صاحب ذلك من أجواء أسرية أو شبابية إيجابية في المجمل، ويكفي أننا وفي اللحظات التي كنا نتابع فيها مباراة الكأس يوم الأحد الماضي رأينا على أرض الملعب الأشكال والألوان والأعراق المتنوعة لكلا الفريقين اللذين ألقى لاعبوهما بكل ما يحفل به العالم من صدامات عرقية ودينية خلف ظهورهم واكتفوا بلعب كرة قدم ممتعة لا تسأل عن جنسيتك أو عرقك أو أسرتك أو مالك قدر ما يعنيها موهبتك وتعاونك وقدراتك العقلية القادرة على اتخاذ قرار اللحظة الفاصلة بين النجاح والفشل.
أحد العوامل التي قدمها المحلّلون لنجاح الفريق الفرنسي الذي لم يحصل على كأس العالم إلا مرة واحدة عام 1998 تعود للتقنيات التي استخدمها المدرب الفرنسي مع فريقه، التي أكدت قيماً أساسية في أي عمل جماعي مثل أن الاتحاد بين أعضاء الفريق هو القوة وليس الفوز الفردي، التركيز على روح الفريق وتجاوز المشكلات الفردية، الوصول للنتائج هي مسؤولية الجميع وليس لاعباً أو اثنين من المشهورين إلى غير ذلك من قيم العمل الجماعية الذي أثبتها الفريق الفرنسي فتمكن من التربع على عرش القمة.
كثيرٌ من البحوث والدراسات حاولت التعرّف على الأبعاد الثقافية والاجتماعية للمشاركات في الفعاليات العامة مثل الرياضة أو الحفلات أو زيارة المتاحف والمعارض الفنية مثل دراسة:
the Culture and Sport Evidence- (CASE) - strategic research program,2015
التي حاولت معرفة الأسباب والخلفيات التي تدفع للمشاركات العامة وأثر الرياضة على أداء التلاميذ الأكاديمي عبر استعراض آلاف من الدراسات في هذا المجال واستخلاص أهم نتائجها التي أكدت على أن الممارسين للرياضة من الطلاب عدا عن استمتاعهم وتحسن مهاراتهم التفاعلية يتحسنون أيضا في مهاراتهم الرياضية والرقمية بنسبة 20 في المائة مقارنة برفاقهم في نفس المراحل من غير الممارسين (الدراسة شملت طلابا من الصف الرابع حتى 11) كما تحسنت مهارات كثيرة لدى الطلاب من ذوي الاحتياجات الخاصة اجتماعية وأكاديمية وشخصية بنسبة 25 في المائة مقارنة بنظرائهم من غير الممارسين.
ممارسة الرياضة وحشد الطاقات المجتمعية المحلية لها يخلق روحا وصوتا لهذه المجتمعات التي تحاول البروز عبر فرقها فيزدهر التطوع لمساعدة المجتمع المحلي على الاستخدام الأمثل لكفاءته ويجد الصغار نماذج محلية يستطيعون الاقتداء بها كما يعود الناس على تحمل الاختلافات والتعامل معها بحلول سلمية إلى جانب أنه يشغل طاقات الشباب بشكل سلمي فتقل في العادة نسبة الجرائم واستهلاك المخدرات.
لدينا مشاكل حقيقية مع جماعات الشباب في كثير من مناطق المملكة وخاصة في فصل الصيف الطويل، حيث لا توجد منابع لتفريغ الطاقات ويظل الشباب بين نائم ومستيقظ لا يجد سلوى جماعية أو شخصية إلا في أطر محدودة جدا.
مباريات كأس العالم هذه السنة جمعت الصغير والكبير والمرأة والرجل والعائلة والأصدقاء وكثرت المناسبات التي أشغلت الناس لإعداد المكان والعشاء والسمر بعد المباراة الخ من الأفعال الاجتماعية المشتركة التي نفتقدها بشدة في بلادنا.
هيئة الرياضة وغيرها من القطاعات ذات العلاقة بشطريها الرجالي والنسائي تعمل ليل نهار لوضع خطط واستراتيجيات تشجع الممارسة الرياضية كما أكدتها رؤية 2030 بحيث يكون الهدف أن واحداً من كل أربعة من سكان المملكة ممارسا للرياضة وحتى يحدث ذلك لن تكفي الجهود الرسمية فقط بل لابد من تشجيع المجتمعات المحلية التي لم تتعود على العمل الجماعي أو التطوعي إذ هي بحاجة إلى من يديرها لخلق مجموعات محلية تطوعية من الآباء والأمهات والشباب والشابات للتعارف وتنسيق جهود الأحياء لممارسة النشاطات العامة ومنها الرياضة كما في كل بلدان العالم، وهنا يجب أن تظهر جهود مؤسسات مثل مراكز الأحياء الاجتماعية والمجالس البلدية والجامعات والمدارس الخاصة الكبيرة التي تتمتع بمنشآت رياضية وثقافية ومكتبية متميزة وبقيادات ذات خبرة تستطيع إذا تشبعت بحس وطني متميز وتخلصت من بؤر الفساد وحب الظهور الشخصي تحقيق معجزات في الأحياء ليس أقلها الشعور بالسعادة في العمل الجماعي وإشغال الشباب بما يعود عليهم بالخير وربما اكتشاف مواهب غضة قد تلفت نظر الفرق الكبرى وهكذا.
الرياضة منجم ذهب على المستوي الشخصي والعام وعلينا فقط التفكير بها كصناعة صحية ومالية وثقافية واجتماعية كما فعلت كل الأمم التي حظيت بكؤوس العالم.