د. خيرية السقاف
استوعب ديوان العرب الشعري حياة الإنسان بتفاصيلها، وجاء صورة عن مدائحه، وهجائه، وبطولاته، ونقائضه، وحبه، وتوسله، وحكمته، ومخيلته، وترحُّله، ونزوله، وأمكنته، وطرقه، وأغراضه المختلفة التي ما إن تقرأ منه بيتاً في قصيدة إلا تجده قصيدة في تكثيف،
فمعانيه بليغة، وكلماته مؤثِّرة، ودلالاته موحية ..و..و..
فهو سفر للسان قويم، ومخيلة ثرية، ولغة ثرَّة، وإحساس شفيف، وفكر متقد،
بلاغة منطق، وإشراق ذهن، ونبض حس، وجمال قالب، ومنهل بيان..
ديوان العرب الشعري متخم بالجمال، والتجارب، ومختلف الحالات، ومنتهى الغايات..
يواكب لحظة بلحظة مسارهم، وتجاربهم، معاشهم، ووجدانهم، تفاعلهم، وعلاقاتهم، تاريخهم وبطولاتهم، بل معاركهم، ورحلاتهم، كما خير ما كانوا، وشر ما عانوا،
فيه أحلى ضحكاتهم، وأبلغ دمعاتهم، وأصدق مواقفهم، فيه آثر دمائهم، وطعم ماء عيونهم..
هذا الحديث لا جديد فيه..
فأسفار الشعراء العرب حيث دبّوا على الأرض صحراء قاحلة، وخضراء فاتنة، خصبة بها آثار الدارسين لها، ورواتها، والمصنفين دواوينها، تكتظ بها متاجر الكتب، ومكتبات العلم، لا تفنى وإن بهتت أوراقها، أو تباعدت أخبارها..
تشهد لها، وتستشهد بها أقسام العربية في الجامعات، والمكتبات، ومنازل القراء، ونهم القراء..
يتلوها الذواقة، والشاعر، والباحث، والمؤرِّخ، وكل من يستروح العذب من حر هجير أرض الشعر النمير في هذا الزمن البخيل بأمثال شعراء العرب في عصور ولَّت، وانطوت بها عجلات الأيام المدبرات....
ومع أن ملَكة الشعر لا تفنى منابتها في كثير من مقدرات الناس، ولا تموت مواهبهم، فإن ما يلفت في هذا الوقت هو أن الشعراء كُثرٌ، لكنهم ليسوا بملكات أولئك، ولا بقدراتهم، ولا بحصيلتهم اللغوية الثرية، ولا بسعة مخيلاتهم الخصبة الممتدة، ولا برهافة حسهم الرفيع المتدفِّق، مع أن البيئة وإن اختلفت عن الطبيعة البكر أمكنةً، ومضموناً، إلا أنها أكثر متاحات لأن يكون فيها الشعر الحديث مفعماً بالأفكار، ممتداً بثراء المتاح إنجازاً، وتنوعاً، ومضامين حياة، وتقارب تجارب، واختلاف مصادر، وتجدد فكر، حتى اللغة وإن تخلَّصت بفعل الزمن من حوشيها، واستوعبت متغيِّرات تطور الزمن إلا أنها العين المدرِّة بكنوزها الملهمة التي جافاها أهلها، فعقمت على ألسنة شعرائها المعاصرين، واضمحل ديوانهم الحديث، إذ هشَّت قوادم مخيلاتهم، وتأطرت مساحات أفكارهم، وجفَّت موارد مناهلهم في حالة تناقض مدهش..
فالشعر آخر ما يُعنى به، وأول ما كان ينبغي رفده بالعناية، حيث كان الظاهرة المشرقة في تاريخ العرب، والديوان الثري الذي حفظ لهم كل الذي أثرى الذاكرة بالأيام، والتاريخ، والوقائع، والأحداث، بل بالعلاقات، والمشاعر، والطيوف، والأفكار، إنه كان ولا يزال مرجع حياة، ومنهل امتداد..
فكيف هو حالكم أيها الشعراء؟!
كيف هو ديوانكم مقارنة بالذي لم يطوَ، ولن يندثر؟!
هل تستوعبون فيه زمنكم كما فعل الأقدمون بما يليق به كما فعلوا؟
وسلام عليكم ..
* * * * *
والسلام عليهم،
أمضيتُ اللحظات التي سبقت معهم فجئتكم بالذي سبق.