د. خالد عبدالله الخميس
ما كان لأحد من المراقبين أن يتوقع أن يتم خلال أشهر قليلة قلب معادلة رجال الأعمال من مرتبة الهيمنة على مقدارات الدولة إلى وضعية المساءلة: من أين لك هذا؟
وما كان يدور بخلد أحد أن الفساد مهما استشرى في بلد ما ومهما نخر في مفاصلها فإنه يمكن من خلال وقفة حازمة وشجاعة أن تنقلب طاولة الفساد رأساً على مفسديها.
وما كان يدور بخلد أحد أن أخطبوط رجال الأعمال الفاسدين مهما امتدت أذرعهم، فإنه يمكن ترويضهم وحملهم على الصراط المستقيم.
إن ما عليه قناعة القاصي والداني أن رجال الأعمال هم أقوى طبقة نافذة تخشاها الدول كونهم يمتلكون لوبياً يستطيع أن يعلي شأن اقتصاد البلد أو يخسف به، فالمنتخَبون للرئاسة في أمريكا ودول الغرب، يُعَولون نجاحاتهم على تأييد طبقة رجال الأعمال أكثر من تعويلهم على طبقات الشعب الأخرى.
هذه القاعدة يبدو أنها ليست مضطردة خصوصاً عندما يبلغ فساد رجال الأعمال مبلغه ويتصدى لهذا الفساد إرادة حازمة وصارمة تنطلق من أعلى رأس في الدولة وتتخذ الشعب شاهداً ومؤيداً على الإصلاح.
في عهد سلمان الحزم لم يعد مجرد التمسح بالشعارات الوطنية بالمديح، ومجرد رفع صور رموز الوطن على مكاتب رجال الأعمال كافياً لإثبات وطنيتك، ما لم تعِ الآتي:
أولا: البعد عن الفساد المالي والإداري والمحسوبيات والرشاوى بكل أوجهها، فإن كنت أيها التاجر متعاقداً مع الدولة في مشروع ما، وجب عليك تنفيذ المشروع بحسب مواصفاته دون أن تضع في حساباتك أي محاولات للتلاعب ببعض بنود المواصفات، وتأكد أن الوزير لم يعد يُستخدم كمطية لتغطية فسادك، كون الوزير بنفسه يقع في مرمى المساءلة.
الأمر الثاني: لتفهم يا رجل الأعمال أن الانتماء الوطني ليس شعاراً تردده في المجالس، بل هو قيمة خلقية، فحب الوطن والانتماء الوطني مرهون بتوظيف المواطنين في مؤسستك وشركتك، ولتعلم أن أعداء الوطنية هم من تكتظ شركاتهم بغير المواطنين ويسعون لفتح البلد على مصراعيه لتوظيف الغريب على حساب المواطن.
والمتبصر بحال التجار ودلال الدولة لهم يقول: إنه لمن «البجاحة» أن تمنحك الدولة تراخيص وتسهيلات ومساحات مجانية على البحر والبر وتدعم تسويقك لمنتجاتك، ثم إذا طلبت منك الدولة أن تعين موطنيها كموظفين لديك بدأت تتأفف وترفع أنفك وتندب حظك!
ثالثاً: لتعلم أن التجارة كما هي ذكاء وشطارة فهي ربح وخسارة، فليس بالضرورة أن تكون رابحاً على الدوام، ولتعلم أن زمان الجشع والأرباح الفلكية ولى من دون رجعة، وأن زمن لهف الملايين والمليارات بغير حق قد مضى كذلك.
هذه الأمور الثلاثة يعيها كثيراً رجال الأعمال الجدد، كونهم خرجوا في وقت كانت الدولة تسل سيفها على الفساد بشتى صنوفه.
ولقد سبق عهد سلمان الحزم محاولات صادقة كانت في عهد الملك عبدالله عندما أنشأ في عام 1432 أول جهة خاصة بالفساد سميت بالهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، وجاء في أحد بنودها (تشمل مهام الهيئة كافة القطاعات الحكومية، ولا يستثنى من ذلك كائناً من كان، وتسند إليها مهام متابعة تنفيذ الأوامر والتعليمات الخاصة بالشأن العام، ويدخل في اختصاصها متابعة أوجه الفساد الإداري والمالي). ورغم أن الهيئة حاولت محاولاتها لتطبيق بنودها، إلا أن نفوذ الصوت الآخر كان عاتياً، فلم يكن بمقدور الهيئة عمل الكثير، حتى جاء عهد سلمان الحزم الذي كتم فيه نفوذ الصوت الآخر بكل حزم في حملة ضخمة على الفساد كانت مطلع العام الحالي 1439 ، تحدثت عنها الصحافة العالمية.
وكما كانت محاولات الملك عبدالله جادة في مشروع القضاء على الفساد، فقد سبقها قبل ذلك مشروع القضاء على البطالة وتوطين الوظائف، فعين الملك عبدالله في ذلك الرجل الإصلاحي غازي القصيبي وزيراً للعمل عام 1425 ، وطلب منه اتخاذ كل الإجراءات التي تُلزم الشركات بتوطين الوظائف، ولن ينس رجال الأعمال ذلك الاجتماع المثير للجدل الذي دار بينهم وبين الوزير القصيبي ، وكان أكثر فصول الاجتماع إثارة عندما اعترض بعض رجال الأعمال على نسبة التوطين، وقال بعضهم مهدداً: نخشى أن يؤدي ذلك لترحيل رجال الأعمال من البلد ونقل استثماراتهم لخارج البلد، وكان رد القصيبي: ليرحلوا، وسأكون آخر من يودعهم عند سلم الطائرة. والواقع، أنه لم يقدم أحدٌ من رجالات الأعمال حينها على المغادرة لعلمهم أن أرض السعودية هي أكثر البلاد تدليلاً لتجارها حيث تدعمهم بصناديقها وتتيح لهم حرية التسويق حيث القوة الشرائية دون فرض ضرائب وأتوات.
ومع هذا، كسب التجار هذه الجولة، ولم يكن ثمة قرارات رادعة تصلح حال السعودة، وسارت الأمور في غير ما كانت تهدف له الدولة، وأدرك القصيبي أن الصراع لأجل السعودة كان يقاومة قوة متوغلة في النفوذ.
وهكذا سارت الأمور لسنوات في غير ما خطط له، بعدها قدمت وزارة العمل عام 1435 برنامج نظام الطاقات لتشجيع توظيف المواطنين ويضم البرنامج ستة نطاقات أو فئات: الفئة البلاتينية التي يكون كل موظفيها مواطنين والأخضر التي تعين 90 % من موظفيها سعوديين، وهكذا تتدرج بقية الطاقات حتى تصل إلى آخر النطاقات والتي هي باللون الأحمر الذي يشير بأن المؤسسة لا تحوي إلا القلة من السعوديين وكل ما في الأمر أن تمنع ترخيص تلك الطاقم من استقدام العمالة. ورغم أن ذلك النظام لازال معمولا به، إلا أنه لم يشكل تغييرا جذريا في توطين الوظائف، حتى جاء نظام سلمان الحزم وجاء بنظام ذكي وحازم صدر في بدايات عام 1438 يخص رفع رسوم الإقامات على العمالة الوافدة وتضاعف رفعها عبر مرور السنوات، ويهدف هذا القرار لتوصيل رسالة لرجال الأعمال فحواها «إن الذي يرغب في استبدال توظيف غير المواطن بالمواطن، فعليه أن يدفع الفرق»، وبالفعل تم تطبيق النظام بحزم رغم كثرة الأصوات التي نادت بإلغائه، فتم إخلاء كثير من الوظائف ورحيل قرابة مليون وافد وأغلقت بعض المؤسسات القائمة على أكتاف الوافدين. وشكل هذا الإجراء فراغات وفرص للمواطن كي يقوم بإدارة محل خاص له، فبدل من أن يكون هنالك خمس محلات تموينات في الشارع الواحد أصبح محلين يداران بأيدٍ وطنية، وبدلاً من أن يكون هنالك عشرة مغاسل في الحي أصبحت ثلاث مغاسل تُشغل بأيدٍ وطنية، وهذه الفراغات أيضا أقنعت رجال الأعمال الجدد بضرورة وضع يده مع يد أخيه المواطن واعتباره شريكاً لا منافساً.
وكردة فعل متوقعة ممن هم ضد التوطين وانزعاجهم من آثار رفع رسوم الإقامات، قامت بعض المؤسسات بنقل أعمالهم إلى خارج البلد وبالتحديد إلى مدينة دبي، إلا أن تجربة الكثير منهم باءت بالفشل، إذ وجدوا أنفسهم يتنافسون مع عتاة تجار العالم ووجدوا أنفسهم في ذيل المؤخرة، فعادوا يتصالحون ويصالحون المواطن بالاعتراف به كقيمة وظيفية جديرة بالاحترام.
بحمدالله، فبرؤية العزم وسيف الحزم، ولى زمن التاجر الكسول الذي يدير تجارته شخص غير سعودي. ولى زمن التاجر الكسول الذي يبيع الفيز ليستلم راتبه من العمالة السائبة. ولى زمن التاجر المدلل الذي تمنحه الدولة أرضاً زراعية وتعطيه قرضاً ومعدات ورشاشات زراعية ومن ثم تشتري منه محصوله بأضعف الأثمان. ولى زمن التاجر الفاسد الذي عينه زائغة على مشروعات الدولة الكبيرة، فيأخذ عقودها بمئات الأضعاف وينجز مشروعاته بأقل كفاءة ممكنة. وبقى الآن زمن رجال الأعمال الوطنيين الجدد الذين وضعوا الصدق والإبداع عنواناً لهم، وقاموا بإعادة تنظيم أنظمة شركاتهم ورفع كفاءة موظفيهم من المواطنين ورفع شعار الجودة في الإنجاز والجودة في المنتج والجودة في كفاءة الموظف والعامل السعودي.
وكم نفخر كمواطنين عندما نشاهد منتجات سعودية تنافس المنتجات العالمية ونجدها تملأ المحلات خارج أرض الوطن.