د.مساعد بن عبدالله النوح
الدية هي جزاء يجمع بين العقوبة والتعويض، ففيها من الزجر والردع ما يكف الجناة ويحمي الأنفس وتعويض لما فات من الأنفس أو الأعضاء بالمال الذي يأخذه المجني عليه أو ورثته. ومن شروطها المشروعة أن يكون المجني عليه معصوم الدم سواء أكان مسلماً أم ذمياً، وصغيراً أم مجنوناً. والتفصيل في موضوع الدية معلوم في كتابات الأساس التشريعي. ويقابل أخذ الدية العفو عن الجاني مع القدرة على مقابلة الخطأ بالمثل.
والعفو من الخصال الحميدة التي ينبغي على كل مسلم أن يتحلَّى بها، ويعني «التجاوز على الذنب وترك العقاب عليه»؛ لأن الله عفو يحب العفو. وأعد للعافين عن الناس في الدنيا بالعز والرفعة وفي الآخرة بالثواب والمغفرة, موردًا قول الرسول صلى الله عليه وسلم «ثلاث أقسم عليهن وأحدثكم حديثاً فاحفظوه, قال: ما نقص مال من صدقة, ولا ظلم عبد مظلمة صبر عليها إلا زاده الله عزاً, فأعفوا يعزكم الله, ولا فتح عبد مسألة إلا فتح الله له بها باب فقر أو كلمة نحوها»، فهذا في الدنيا» أخرجه أحمد وابن ماجه، وأما الآخرة فقوله صلى الله عليه وسلم: «من سره أن يشرف له البنيان, وترفع له الدرجات, فليعف عمّن ظلم، ويعطي من حرمه، ويصل من قطعه». حديث صحيح الإسناد.
لقد أضحى التسابق في جمع الديات والتنافس عليها ظاهرة اجتماعية لدى بعض القبائل، يشارك فيها أعيانها وظيفياً واجتماعياً واقتصادياً؛ رغبة في ممارسة الضغط والتأثير على قرار ذوي الدم؛ للتراجع عن القصاص، أو لوضع حد لجشعهم عند تحديد مبالغ مالية كبيرة، ويأتي هؤلاء الوجهاء من كل مكان، وتسجل مقاطع فيديوهات عبر أفراد لتجمهر الناس على ذوي المقتول؛ بقصد إظهار الفزعة والمساعدة للقاتل والمجني عليه أو ورثته.
مشاهد تجمهر البعض بذوي المقتول، وما يتزامن معه من كلمات وعبارات محبوكة لفظياً وأصوات عالية وجهورية لا تعكس سلوكاً واعياً دينياً وعلمياً واجتماعياً بقدر ما تظهر تعصباً قبلياً ممقوتاً شرعاً وعرفاً، ويرسخ لدى الأجيال الناشئة والشابة انتماءات عصبيات وتفرقة لا أساس لها.
تعدت هذه العصبيات نظَم القصائد وإلقاءها إلى حرمة الأنفس والدماء، وعلى الرغم من أن الدية عن القتل العمد مقررة شرعاً، ومقام المجلس الأعلى للقضاء قد عدَّل مبلغ الدية من 100 ألف ريال إلى 300 ألف ريال للقتل الخطأ، و400 ألف ريال للقتل العمد وقد جاء الأمر الملكي الكريم بالموافقة على هذا التعديل وذلك كما جاء في موقع صحيفة وئام في9 شوال1432 الموافق 7 سبتمبر 2011، إلا أنه يلاحظ استمرار مشاهد التجمهر والتباهي بقوة وتلاحم من يدعو لها.
وفي مثل هذه الحالات حذّرت دراسة صدرت عن معهد البحوث والدراسات الاستشارية بجامعة الملك خالد بأبها من نتائج جمع الديات ودفعها في حالة القتل العمد، ومنها: مخالف للشريعة الإسلامية؛ لما فيه من الإثقال على الناس وإيغار الصدور وإثارة البغضاء والشحناء والتساهل في الدماء والتهاون في موضوع العفو والتسامح، ومجال للاستغلال والسمسرة. وطالبت بتشكيل لجان من قبل الجهات المختصة لتولي السعي بالصلح، وضبط المغالاة في تحديد الأموال.
كما حذّرت جهات تشريعية وقضائية من تنفّع بعض الناس من قيادة أو المشاركة في حملات الصلح وأن العفو هو هدف ثانوي لديه والعياذ بالله من رخص النفس ودنو مصدر جمع المال. كما حذّرت من أن الأموال التي يتم التبرع بها لدفع الدية المطلوبة كشرط لعتق رقبة القاتل في حالة عدم اكتمالها لا تعود لأصحابها وتبقى في الحساب البنكي الجاري الذي أنشئ من أجله، وتوجه لحالة أخرى.
وفي الوقت الذي يلجأ فيه البعض إلى ممارسة العصبيات، توجد في الوقت ذاته قبائل عدة تتسابق في وضع حد لمقدار الديات وتحت مباشرة وجهائها، فقد أتم الأمير فهد بن نواف بن فواز الشعلان اتفاقًا على بنود وثيقة ضمت قبيلتي الرولة والجلاس، ثم انضم لها عدد من مشايخ عنزة سعيًا من جميع أطراف القبيلة على التوفيق مع شرع الله، كما أنهت قبيلة شمر اتفاقها على وثيقة مشابهة حددت فيه الدية 5 ملايين وقد تم الاجتماع بتاريخ 30-5-1438 الموافق 27-2-2017 .
كما وقَّع عدد من شيوخ شمل وعمد وكبار قبيلة عنزة (18-6-1438 الموافق 17 -3- 2017)، على وثيقة تنص على تحديد الدية في حال التنازل المشروط، مشددين في الوقت نفسه على حرمة النفس البشرية وسفك الدماء وإزهاق الأرواح.
وتهدف خطوة قبيلة عنزة - التي سبقتها خطوات مشابهة من قبائل أخرى- لوضع حد للمبالغات في الديات الناتجة عن جرائم القتل العمد وغير المتعمدة، والتي وصلت مؤخرًا لعشرات الملايين من الريالات، ما وضع أفراد وجماعات هذه القبائل في حرج شديد في مسألة جمع ودفع الديات، الأمر الذي أصبح محل استهجان وانتقاد كثير من أفراد القبيلة لما تترتب عليه هذه المواضيع من حرج كبير وعجز لدى البعض.
وشددت الوثيقة على ألا يكون الجاني طرفًا في قضية مخدرات، أو إحدى القضايا المخلة بالشرف، وما يندرج تحتها مما تم الاتفاق عليه، وحددت الوثيقة الدية التي يتم جمعها والتي تبدأ من ريال واحد، إلى 5 ملايين ريال، لعموم قبيلة عنزة، ومن يتعدى هذا المبلغ المخصص ينبذ من القبيلة في حال عدم استجابته للشروط المتفق عليها.
وطالب جميع أمراء وشيوخ وكبار قبيلة عنزة - في الوقت نفسه- بضبط النفس، والتحلّي بالأخلاق الكريمة الفاضلة، وحل أي خلاف حسب الضوابط والتشريعات القانونية التي سنتها الحكومة الرشيدة، وذلك بوجود جهات حكومية تتولى أخذ الحقوق، وحفظ الممتلكات والأرواح، قبل أن يقع الإنسان بإشكالية يجد نفسه من خلالها ضحية جراء هذه الأمور. كما طالب شيوخ وكبار وأفراد القبيلة بالالتزام بهذه الوثيقة.
إنها جهود تستحق أن يعلن عنها على نطاق واسع، تنسجم مع التوجه الشرعي، ويا حبذا لو دعت وزارة الداخلية ممثلاً لكل قبيلة لعمل وثيقة وبعد الموافقة على بنودها، تعمم على جميع القبائل للعمل بموجبها عملاً بقوله تعالى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} (178) سورة البقرة، وبقوله سبحانه: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ}. اللهم ألهم الجميع الرشد في حلمهم وغضبهم واجتماعهم وفرقتهم.