فوزية الجار الله
ما زلت أتذكر ذلك الرجل البسيط الطيب الذي غادر دنيانا منذ بضع سنوات، تحفه رحمة رب العالمين. هذا الرجل فُجع يومًا بمصيبة في ابنه الشاب؛ إذ تمت مطاردته من قِبل مجموعة من الأشرار/ الشباب للأسف، ثم حدثت مشاجرة عنيفة بينهم، أصيب بعدها بغيبوبة، لازم بسببها المستشفى، ومن جرائها توفي بعد ستة أشهر.
الرجل طيب وبسيط، لا حول له ولا قوة؛ لذا فقد تم الضغط عليه للتنازل عن حق ابنه، ولم ينل ريالاً واحدًا تعويضًا له رغم أن خزائن الأرض لا تعوضه عن فقد ابنه، لكنها ستسهم على الأقل في رفع المعاناة عنه. وبعد سنوات ذهب الرجل إلى رحمة الله وفي قلبه قهر وألم وحسرة على ذلك الفقد العظيم، ولم ينل تعويضًا ماديًّا رغم أن من حقه الحصول عليه، في الوقت الذي نرى فيه اليوم استمرارًا مبالغًا فيه في رفع سقف «الديات». والدية في الشرع - كما هو معروف - عبارة عن تعويض مادي، يناله أهل المجني عليه «المقتول» من طرف القاتل أو ذويه.
وُجدت الجريمة مع وجود الإنسان، وهي باقية إلى ما شاء الله، وتختلف أسبابها، وقد تكون قتلاً بالخطأ مثل حوادث السيارات غير المقصودة، وقد تكون جريمة منظمة مع سبق الإصرار والترصد.. وقد فرضت الشرائع السماوية - وعلى رأسها الدين الإسلامي - القصاص على من يرتكب جريمة القتل عمدًا وترصدًا من باب الردع والتأديب وأخذ العظة والعبرة من بقية أفراد المجتمع لعدم الاستهانة بأرواح البشر..
ولا بأس بالدية حين تبلغ مقدارًا معينًا متفقًا عليه.. أتذكر أنه كان لا يزيد في الزمن السابق على مائة ألف ريال سعودي. أما الآن فقد أصبحنا نفاجَأ بين الفترة والأخرى بما يسمى عتق الرقبة، وتنشط الأصوات عبر وسائل التواصل الاجتماعي بدعوة الأفراد والقبائل للإسهام بها. وهذا أمر عجيب؛ يثير التساؤل؛ إذ ليست كل حوادث القتل متساوية، وأيضًا أولئك المقترفون لجرائم القتل ليسوا سواء؛ فمنهم المتورط القاتل نتيجة فعل خاطئ غير مقصود مثلما هو الحال في حوادث السيارات، أو دفاعًا عن نفسه أو عرضه، لكنه لم يقصد القتل بحد ذاته.. ليست كل «الفزعات» - كما هو متعارف على تسميتها محليًّا - تؤدي إلى هدف إنساني راقٍ، بل قد تؤدي إلى العكس؛ إذ تجمع الأموال لعتق رقبة إنسان مجرم معتدٍ، قد لا يرتدع عن تكرار الجريمة.. عدا أن المبالغة في جمع هذه المبالغ الضخمة الهائلة أمر مستهجن مريب، وقد تخفي خلفها أمورًا سيئة عدا أنها تدل على الطمع والجشع واستغلال المصيبة المتمثلة بحادثة القتل للكسب المادي، وربما تخفي بين طياتها جرائم أخرى مثل غسل الأموال. والله أعلم!
وأخيرًا أرى أن من الأفضل وضع حد أعلى لمبلغ الدية، وشروط مقننة لعتق الرقبة، أي تحرير الشخص من السجن أو القصاص، وافتداءه بالمال. وما لم توضع مثل هذه الضوابط سوف يستمر مسلسل عتق الرقبة، وربما يؤدي إلى ما لا تُحمد عقباه.