يوسف المحيميد
للمرة الثانية أطوف قاعات متحف لوفر أبو ظبي، وأشعر بالمتعة ذاتها حينما زرته أول مرة قبل عدة أشهر، لكنني هذه المرة كنت متأملا ومتفحصا أكثر، بالذات للقطع التي أعشقها، ومنذ الوطأة الأولى في أول قاعة، دهشت مجددا لعقد هذه المقارنات بين حضارات في أزمان متباعدة، يجمعها الموضوع ورؤية الحياة والخلود: بيوت الموتى التي تجسد روح وحضارة المجتمع، الأقنعة الذهبية حيث تغطي معظم الحضارات موتاها بالذهب حفظا لهم، الأباريق الفاخرة التي تروي لنا حكايات البلدان، الأمومة وما فيها من حركة تحوّل المرء إلى إنسان وما تغرسه فينا من روح الأخوة، علب الكتابة لدى الحضارات حيث تحلِّق الريشة والأفكار من داخلها، فتطلق أسرار الحكايات، الفرسان والإنسان الحالم بجناحين حيث يطير فوق سرجه نحو الأفق... إلى آخره من التناغم المدهش بين الحضارات والأمم السالفة.
منذ القاعة الأولى وحتى الثانية عشرة تظهر ثيمة المتحف التي توائم بين الحضارات وتؤاخي بينها، وليس أوضح على ذلك من حوار بين غاندهارا وروما، فعلى الرغم من المسافة الشاسعة بين هذين التمثالين، بين الباكستان وممالك الهند وإيطاليا، إلا أن هناك تشابها مدهشا في تنفيذهما، وفي طيَّات الثياب حين ينتميان إلى المرحلة الإغريقية.
هناك وعي عميق لدى من صمم هذا المتحف ونسج خطوط التنقل بين القاعات والحضارات، دراية وخبرة كبيرة استطاعت أن تقود الزائر من يده، مأخوذًا بفتنة التاريخ والفنون، حتى الطفل لم يغب عن ذهنه، بوضع متحف أطفال تفاعلي ومميز، يحفز الأطفال على فهم أسرار المتحف وكنوزه، ولعل اختيار لوحة للفنان بول كلي، وما يملكه من حس عال بالطفولة، كان اختيارا موفقا، وإثارة الطفل بأسئلة من قبيل: ما الذي تراه في هذه اللوحة؟ حرك ذراعيك كي تتحرك الألوان، وهكذا.
ورغم تعدُّد القطع وتنوعها من مختلف الدول والحضارات العريقة، باستعارتها من متاحف عالمية، إلا أن نصيب المملكة عملان فقط حسب جولتي، أحدهما شاهدة قبر قديمة، مملوكة لهيئة السياحة والثراث الوطني (رغم ما تمتلكه هذه الهيئة من روائع مذهلة لم يُخصص لها متحف بعد) والعمل الآخر هو مجموعة مكونة من أحد عشر قدر طبخ عتيقة، للفنانة السعودية مها الملوح، سمَّتها (غذاء للفكر - المعلقات) حيث مع اسوداد هذه القدور بفعل الطهي احتفظت بآثار تاريخها كما احتفظت رمزيا بالقصص التي تسرد أثناء تناول وجبات الطعام في تقاليد البدو الرحل، وكأنما الفنانة قامت بتحويل هذه القدور إلى قصيدة مرئيّة تكريما للشعر الجاهلي عند العرب، لتنتج عملا فنيا سرديا موازيًا، ولا أعرف لماذا أحد عشر قدرًا، إذا كانت المعلقات سبع، أو عشر معلقات في روايات أخرى، ربما كانت المعلقات السردية في رؤية الفنانة غير ذلك.