عبده الأسمري
استأنست وسعدت وتشرفت قبل أيام بزيارة بيت الله الحرام وأمضيت أياما بجواره. انجذبت كثيراً لتفاصيل الروحانية ومقومات الطمأنينة ومعاني السكينة التي تشربتها روحي.. وقد رأيت وتعمقت في مشاهد عظيمة سجلها الزوار ولوحات رسمها العباد في كنف البيت العتيق كانت بمثابة المناهج السلوكية والرؤى المسلكية التي عكست ارتباط علم النفس الإسلامي ارتباطا عميقا ومتعمقا بهذه البقعة الطاهرة ووظفت ترابط الإرشاد السلوكي بجمال العبادة في هذا المكان المنير..
سرحت بفكري وأنا أشاهد التنظيم الإبداعي الذي يقوم به عمال السقيا والخدمات والنظافة وموظفي رئاسة الحرمين الشريفين ورجال الأمن كان الأمر أشبه بعمل خلايا النحل.. بشر يؤدون العمل بكفاءة وتنظيم عالي واحترافية مذهلة الكل يعرف دوره بمهنية والجميع يكملون المهام بطريقة مؤسساتية وكأنهم آلات.. مما جعل المنتج جاهزا في وقت وجيز وبإنجاز أوجز. لذا اعتمر ذهني بمعادلة التخطيط المقترن بالعبادة والتوجيه المتقارن بالإخلاص واستقرت في ذاكرتي معالم الفرح والمرح لمئات العاملين وهم يؤدون عملهم بسعادة غامرة عندها عرفت أن طهر الأرض وصفاء المهمة ووفاء الهمة يكمل الواجبات بمشهد منفرد في هذا الركن المبارك من الأرض..
شاهدت عشرات الأسر وهي تتجه إلى التوسعة وهم يتبادلون المشروبات والمأكولات وكأنهم أسرة واحدة في ظل محبة تملأ المكان وتعاون يغمر الأرجاء رأيت الأطفال يقومون بالمهمة وهم يتدربون ميدانيا على إسعاد الآخر وإعانة القريب والإحسان إلى المجاور منذ الصغر في تأهيل أسري وسلوكي بدأ من بيت الله ليكون منطلقا ومنهجا نحو حياة حافلة بمحاسن الأخلاق.
عشرات الشباب والفتيات يأتون من منازلهم ثم يمكثون في جانب قصي من التوسعة الخارجية ليوظفون جانبا خفيا من العبادة بتوزيع القهوة والتمر مجانا وخلسة بين الصفوف تسبقهم الابتسامات وتخلفهم الدعوات.
عباد مخلصون قدموا من كل أرجاء الأرض يتحدثون أكثر من 200 لغة ولكنهم يشتركون في لغة الوجوه ويتشاركون في قاسم مشترك أكبر وهو الابتسامة، الجميع متعاونين مترابطين وكأنهم تحت لواء رجل واحد جمعتهم الشعائر وسكنتهم الفضيلة وغمرتهم الإنسانية.. يوظفون منهجاً فاخراً من سلوك مساعدة الآخرين وإجابة السائلين وإعانة المقعدين وإغاثة المتعبين.. الكل ينشرون السلام ويرسمون ملاحم العون والتعاون في أبهى حللها.
رأيت أطفالا يتوجهون إلى رجال الأمن على بوابات الحرم ليقومون بتحيتهم بتوجيه من ذويهم الأمر الذي يشيع الاحترام والتقدير وحفظ المعروف مما أسهم في إسعاد كل أطراف المشهد.
رأيت مقعدين ومقعدات يجولون بنظراتهم إلى أطراف البيت الحرام والأنس يملأ وجوههم وشاهدت مرضى يمارسون الاستشفاء بماء زمزم بكل يقين وفرح في قوة روحية فاعلة صنعها المكان، كان الاطمئنان عنوانا لكل تفاصيل التشافي المعتمد على حسن الظن بالله والشفاء المرتبط بقدسية المكان وحقيقة وواقعية وحتمية الأحاديث الشريفة في هذا الشأن موظفين منهجا من مناهج اليقين نحو إرشاد سلوكي هادف.
دلفت إلى داخل الحرم فلمحت الساجدين والركع السجود وأعينهم تفيض من الدمع ورأيت جموعا يتلون القرآن بشغف واشتياق آناء الليل وأطراف النهار أعجبت كثيرا بوجود مصاحف بكل اللغات مع مصاحف مخصصة للمكفوفين بلغة برايل شاهدت أشكال سلوكية للدعاء لطرق أبواب السماء جميعها تنتهي بالسرور العظيم وسط تيقن بالإجابة تملأ الجهاز النفسي بالوقار والاستقرار.
شدني منظر مجاميع من طلبة العلم تسلحوا بالعلم ماكثين بين مجلداتهم وأوراقهم حيث كان الحرم أعظم جامعة للبحث رأيتهم وهم يبذلون الجهد ويوزعون الوقت بين النقاش والصلاة والذكر.
رأيت الصدقات في أبهى صورها وفي أدق اختبائها وتنوعها.. وتابعت المنافع بجوار الحرم المكي في سبل رزق لا تعترف بالتوقيت. شاهدت توثيق الصور بعناوين للتاريخ وتفاصيل للجغرافيا وأوجه للمعنى تتناقلها الأجهزة في أيام اعتمرت بالفلاح.
الحرم المكي أعظم أكاديمية في الأرض لتأسيس مناهج علم النفس السلوكي ونشر منهجية الأخلاق وبث روح الإنسانية وتوظيف معاني التقوى.. فمن أراد أن يخضع للتدريب الديني الدنيوي عليه فقط أن يشد الرحال إلى البيت العتيق وأن يسكب العبرات بين يدي الحنان المنان وأن يتشرب من دروس السلوك ومن مدارس التعامل ومن ينابيع الرجاء ومن جداول اليقين.