د. حسن بن فهد الهويمل
يُصابُ المتابعُ الواعي بالدوار، حين يرى التناقض الصارخ، والتناحر المستحر حول قضايا الوَضَاءَةِ، والثَّباتِ: الحجَّةِ، والمحَجَّة.
وبعض المتعاطين معها مصابُون بعمى الألوان. ولا سيما إذا كان هذا المِرَاءُ يصادم مسلماتك، بل يُجْرِيها مجرى المفتريات، ويراك في ظلها من الناقصين: عقلاً، ووعياً.
لقد عايشت أحداثاً مصيرية، غيرت مجرى التاريخ، في كافة مجالات الحياة، وأذاقت أمتنا أشَدَّ العذاب، وكنت زمنها غض الإهاب، ضعيف الجناب، أميل مع الريح حيث تميل، وأرى الأشياء من خلال خطابها الإعلامي الخادع، وأُسَلِّم لكل ناعق، وأركض وراء كل عجاجة.
حتى كدت أوعظ بنفسي، والحصيف من يوعظ بغيره. ولست وحدي مِمَّن جرفه تيار الإعلام. لقد كدت أكون مُهَرِّجاً لجوجاً، متشحاً برداء القومية، والثورية، المحمولة بخطابات تلتف على مضمرات زائفة.
وأَنَّى لنا التناوش معها، ونحن أبناء (الكتاتيب)، وعلى مشارف (التعليم النظامي)، وليست لدينا - إذ ذاك - الخبرة، ولا الممارسة، ولا الفراسة.
من يُسَمُّون أنفسهم بـ(الضباط الأحرار)، و يُسَمَّون بالفتية الذين آمنوا بربهم، أَوْجَفوا بخيلهم، ورجلهم، واحتنكوا ناشئة الأمة، أو كادوا.
كنا شباباً مثاليين، نصدق كل ناعق، ونستبعد الكذب، والافتراء، ولا نعرف غُنُوصِيَّةَ اللعب، ولا خفاء الحيل، ولا التماكر، ولا الاستعمار القابعَ وراء الجُدُر، المستكن في غُرَفِ العمليات، يحرك الدمى على مسرح السياسة.
كنا أبرياء على الفطرة، ولهذا أضلنا (سامري) الإعلام، أو كاد.
لا أحْسِبنا ملومين إذ ذاك، فالأمور مُعَمَّاةٌ، والناس مجمعون على كره الاستعمار الغربي، يودون طرده من مناطقهم، وكل من رفع شعار المقاومة كسب الرأي العام. وإن كان في حقيقته متذيلاً له.
لم يكن أحد منا يعرف صراع القوى، والتنازع على مناطق النفط، والممرات المائية، وصراع المصالح.
لقد كان هناك (مشرقٌ ملحد)، وَ(غَرْبٌ ضال)، وبينهما صراع يجري على أشده في مناطق النفوذ، بعيداً عن أراضيهم، وشعوبهم. وبين (أمريكا)، و(روسيا) مناطق مهيأة، لتكون سُوْحَ صراعٍ، ومسرحاً لحرب ضروس، تفرق بين المرء، وزوجه.
كان مشرقنا العربي مجالاً مناسباً للتنازع، لأنه بقية (خِلَافَةٍ) مهترئة، حَبَسَتْه، فلا هي تركته يتهجى وجوده. ولا هي أهَّلَتْه للوجود الكريم.
ولما كان الصراع على أشده، كان الشباب المتوقد حماساً يتفلت كالفراش، سعياً وراء الأضواء.
وكانت الحكومات العربية مغلوبةً على أمرها، فهي أمام صراع بادي العوار، وتحت وطأة تململ مخيف من فئات شعوبها. ولكي تُهَيَّأ منطقة الشرق الأوسط لمسايرة الصراع طُرِحَ مشروع من أسوء المشاريع السياسية. وهو (الانقلابات العسكرية) التي سميت مخادعة بالثورات.
ذلك أن الأنظمة الملكية، والسلطانية، والأميرية الموصُوفة بـ(الرجعية)، و(العمالة) تدفع بالتي هي أحسن، وتدرأ عن شعوبها ويلات الفتن، ولا ترى الاندفاع وراء عجاجة الصراع. وما هكذا يود الشرق، والغرب. الصرع المستحر وقوده الصم، البكم، العمي الذين لا يعقلون.
وهذه الطواعية المطلقة لا ينفذها إلا (العسكر) الغلاظ، الشداد، ولأن كل طائفة منهم مُجْتَثَّةٌ من فوق الأرض، فإنها بحاجة إلى من يثبت أقدامها، ويحمي ساقتها، ويرود لها طريق الغواية.
فحكم العسكر، والأقليات لا يحميه إلا قوي مستبد :- (ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِّنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ).
لقد مرت تجربة الانقلابات كأسوأ تجربة عرفها (مشرقنا العربي)، ولما تزل هي الأسوأ، حتى جاء (الربيع العربي) بدمويته، وفوضويته الهدامة، فأذهل كل مرضعة عما أرضعت، ورقق كل ما سبق من فتن عمياء، مهدت لهذا الخريف الذي حول الأمة إلى هشيم تذروه الرياح.
عندما ينطلق الكاتب الواعي من هذه الحقائق التاريخية، وتفيض أوعيته من التشاؤم، واليأس، والإحباط، ينبري له خَلِيٌّ متسطحٌ، ليتولى كبر التعذير، والتبرير، وجلد الذات، وإدانة العشيرة الأقربين، و:- (وَيْلٌ للشَّجِيِّ مِنَ الخَلِيِّ).
بحيث يرى (الإرهاب) عربياً خالص العروبة. و(التخلف) إسلامياً خالص الإسلامية، كما يرى نكران المعروف الغربي سمة العربي، لأن العربي يلعن الغرب، ويلجأ إليه. ويذمه، ويستجديه، ثم لا يُسَلِّم له، ولا يُذْعِن. بل يناكفه بلسانه.
هذه الأخلاقيات حسبما يراها هذا الصنف المستغرب سمة التخلف، ونكران الجميل.
فـ(الغرب) عند هذا الصنف قَوَّامٌ على العرب، لأنه الأفضل، ولأنه المنفق على حد:- {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا}. ومن ثم لا يحق لأحد أن يناله بسُوء، لأنه في نظرهم كامل الأوصاف، مكتمل الأهلية.
ولو أن الراصدين للظواهر نظروا إليها بعين مجردة من عبادة الأهواء، وغلبة الشهوات، لاستعادت الأمة عافيتها، واستقام الناس كما أمروا، ولكننا أُخِذْنَا بأقوام :- {لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَا}. ومشكلة الأمة، فيمن يتنخوبون، ثم يتصدرون الشأن العام، تَصَدُّر الرويبضات.
الغرب خَدَّاعٌ كالسراب، مُضِلٌّ كالمتشابه، يجد فيه الفضوليون مجالات رحبة، واحتمالات واسعة، وتأويلات تساعد على تحريف الكلم عن مواضعه.
ومقاربوه يقولون لدعاة الإبصار، والتبصير، والتروي، والتنوير: سمعنا، وعصينا، ولو أنهم قالوا: سمعنا، وأطعنا لكان خيراً لهم.
(الغرب) مصدر كل شر بالنسبة لـ(عالمنا العربي)، ولو أنه كف أيديه الملطخة بكل خطيئة عن مشرقنا، لعالج قادته مشكلاتهم بأنفسهم، تنازعوا، واحتربوا فيما بينهم، ثم تبينت لهم من خلال التجارب وجوه الحق، فاعتنقوها.
(الغرب) أسقط الخلافة، وقسم الأرض، وصنع الأقليات، وزرع الصهيونية، وامتص الخيرات، ودعم الانقلابات، وأغرى بالربيع العربي، وعمل على تفتيت الإسلام إلى: سنة، وشيعة، ومتصوفة، وجعل بأسهم بينهم شديداً.
و(الأمة العربية) شريكة في كل الخطايا، لأنها ظلت قابلة للاستعمار، مستجيبة للدمار، مهيأة لكل الاحتمالات.
والمتنخوبون ينعقون خارج السرب، ولا يدرون ما الحق، وما الصواب.
(فتنة الغرب) مثل فتنة القول في عالم الغيب. (قِدمُ العالم) و(أَبَديَّتَهُ)، و(وجود الله)، و(حقيقة الذات): اندماجاً، أو بينونة (عِلْم الله)، و(خلود النفس) وفناؤها، و(المعاد) أهو: روحي، أم جسماني. ومن قال في هذا، أو في ذاك فإنما يرجم بالغيب.
قضايا أزلت الأقدام، وأضلت الأفهام، وفرقت الأمة، وأدامت زمن التيه.
وما من فتنة إلا هي ممهورة (بيد الغرب). وما من فتنة إلا ونحن شركاء في استقبالها، وتأجيجها.
المعضلة في فرز الأدوار، وتحرير المسائل، وتحديد المسؤوليات، لا أحد بريء. ولكن كيف نَمِيْزَ الخبيث من الطيب، ونقدر الخطيئة. تلك هي معضلة المعضلات:
مَلاعِبُ جِنَّةٍ لَوْ سَارَ فِيْها
سُلَيْمانٌ لَسَارَ بِتُرْجُمَانِ