د. جاسر الحربش
المطلوب فقط التأمل في التزايد الملحوظ لوصول قيادات تتبنى برامج اقتصادية وسياسية قومية تسميها وطنية، بدءاً بالدول الغربية التي فرضت على العالم الثالث اقتصاد العولمة وفتح الأسواق وحرية حركة الأموال.
بدأ خبراء الاجتماع السياسي في الاتحاد الأوروبي على سبيل المثال يصرحون بما كانوا يقولونه تهامساً، أن صعود القيادات الحزبية الشعبوية القومية في ألمانيا وبريطانيا وفرنسا وإيطاليا وهولندا والنمسا والمجر، ليس سببه تدفق الهجرات إليها من إفريقيا وآسيا، وإنما استيقاظ الانتماءات القومية التاريخية القديمة داخل كل دولة في الاتحاد الأوروبي على حدة.
عندما كانت أوروبا وأمريكا مرتاحة ومسيطرة في غياب التحدي الصيني والآسيوي لم يوجد المبرر للتيار القومي ليرفع رأسه. احتدام المنافسة على الأسواق بدخول الصين والهند ودول أخرى على الخط هو سبب انتعاش البرامج القومية في تلك الدول الغربية التي كانت تفرض على الدول الضعيفة الانفتاح بشروط العولمة.
أمريكا، روسيا، الصين، الهند، بريطانيا، فرنسا، ايطاليا، النمسا والمجر، تركيا وإيران وبالطبع الكيان الصهيوني، هذه كلها دول تحكمها الآن قيادات سياسية ببرامج انتخابية واقتصادية قومية تسميها وطنية. ما يهمنا بهذا الصدد كعرب، وليس كدول خليجية عربية فقط، هو الإجابة الصحيحة عن السؤال التالي: هل الدولتان الجارتان تركيا وإيران بقياس برامجهما وقياداتهما هما بالفعل دولتان إسلاميتان دينيتان تهتم إحداهما بشؤون السنة والأخرى بشؤون الشيعة، أم أنهما في التطبيق الفعلي دولتان قوميتان، فارسية صفوية وعثمانية طورانية تمثلان على العرب سنة وشيعة؟
الوصول إلى الحقيقة ليس مهماً لولا أن الدعاية الإعلامية الإيرانية والتركية حققت بوسائط دعوية ووعظية وكتاب عرب وفضائيات عربية قدراً كبيراً من الاختراق في المجتمعات العربية. بناءً على ذلك أطالب كل من دغدغت مشاعره تلك الدعايات النظر في الحقائق التالية:
أولاً: الحكومة التركية متشاركة مع كل من الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا في التوغل العسكري في شمال سوريا والعراق، متشاركة معها في القصف والتهجير والتغيير السكاني العرقي والحدود الإقليمية. الحكومة التركية لها مع الكيان الصهيوني شراكة اقتصادية وعسكرية أكبر من مثيلاتها لكل من ايطاليا واسبانيا واليونان مع الكيان الصهيوني. الحكومة التركية تدغدغ العرب السنة على لسان الرئيس أردوغان بالطهرانية الإسلامية، لكن الواقع الأخلاقي المثبت بالقوانين والتطبيق في تركيا أبعد ما يكون عن الطهرانية الإسلامية، والقارئ يعرف المعنى في ذلك.
ثانياً: إيران سجلها حافل بالعنصرية الدينية القومية، أولاً ضد مكوناتها السنية والعرقية غير الفارسية داخل إيران نفسها، فلا يوجد في العاصمة طهران ذات الستة عشر مليون نسمة مسجد واحد للسنة، وتدريس اللغات العرقية غير الفارسية ممنوع. التشارك الإيراني مع الولايات المتحدة الأمريكية في العراق ومع روسيا في سوريا لا يحتاج إلى أكثر من متابعة المجازر اليومية على الفضائيات.
الاستنتاج: الحكومة التركية قومية طورانية إحيائية تفعل غير ما تقول، وليست حكومة دينية بل قومية، وذلك حقيقة واجبها الوطني ولا جدال.
أما حكومة الولي الفقيه فقبح أقوالها وأفعالها يغني عن الاستدلال.
مهم جداً الاعتراف بأن الدولة الدينية قولاً وفعلاً لم توجد عبر التاريخ البشري سوى في الثلاثين سنة الأولى من الإسلام، وما عدا ذلك كان التاريخ محكوماً بالمصالح القومية مهما اختلفت الشعارات.
الشيوعية والاشتراكية والديمقراطية الليبرالية مجرد شعارات تسقط مع انتهاء فوائدها الاقتصادية. أما المسمى الديني للدولة فما هو سوى واحد من محددات هوية الغالبية السكانية جنباً إلى جنب مع اللغة والجغرافيا والتاريخ الموغل في القدم.