د.عبد الرحمن الحبيب
الإنترنت يمكنه إطلاق عقلك كفراشة تسرح في حقول رحبة بين مختلف الزهور العطرة، أو يجعلك تتقوقع في شرنقة ضيقة تزدحم بأنفاسك.. أنت من يختار، أما الإنترنت فوسيلة محايدة! كثير منا حصر نفسه في «غرفة صدى» لترديد قناعاته مع أشخاص يشابهونه، ويقابلها غرفة أخرى لأشخاص يخالفونه.. الغرفتان تعيشان في عالمين مختلفين، لا يرغب أي منهما فهم الآخر أو الاعتراف به..
«غرفة الصدى» شاعت بالاصطلاح الإنترنتي كاستعارة لتردد صدى الأصوات في غلاف مجوف؛ كوصف مجازي لحالة في وسائل التواصل الاجتماعي يتم فيها تعزيز المعتقدات الفئوية وتضخيمها عبر التواصل المعلوماتي وتكرار الأفكار داخل فئة منغلقة، كممارسة غير واعية لما يطلق عليه في علم النفس «الانحياز التأكيدي» لتزيد الاستقطاب السياسي والاجتماعي والتطرف..
صحيح أن الإنترنت وسّع تنوع ومقدار المعلومات، مما يثري النقاش العام، وتفاءل الجميع به. إلا أنه منذ مطلع الألفية حذر الباحث القانوني كاس سانستين من الإفراط بالتفاؤل، قائلاً: «رغم أن الملايين يستخدمون الإنترنت لتوسيع مداركهم، فإن الكثيرين يفعلون خلاف ذلك تماماً بقصر مطالعتهم على ما يوافق اهتماماتهم وتحيزاتهم».. بعد ذلك توالت الدراسات التي أوضحت أن ضخامة المعلومات أدت إلى انتقائية منحازة دعمت التعصب، وأوجدت «غرف الصدى» حيث يتم في كل غرفة تكرار الادعاءات والأفكار لأناس يعتبرون آراءهم وحدها هي الصحيحة مستندين على قاعدة معلومات ضيقة ومنغلقة.. صارت غرف الصدى من أقوى المدافعين عن الشائعات لأن الناس يثقون بالأدلة المقدمة من الفئة الاجتماعية الخاصة بهم (تويتر، فيسبوك، واتساب..)، أكثر من مؤسسات الإعلام الإخبارية، مما خلق حواجز كبيرة أمام الخطاب النقدي والعقلاني في وسط الإنترنت..
خذ أشهر مثال عالمي، كتاب «النار والغضب»، الذي يدور حول السنة الأولى للرئيس ترامب في البيت الأبيض، وظن البعض أنه قد يؤدي لاستقالة ترامب.. يقول مؤلفه مايكل وولف عن قصص كتابه: «إذا شعرت أنها حقيقية، فهي صحيحة». إنه يُقنع الناس أن يصدقوا مشاعرهم أكثر من عقولهم، دون أدلة مادية أو عقلية لتأكيد أو دحض حكايته عما فعله ترامب. هذا هو لب المشكلة يقول شانون فيشر (جامعة فيرجينيا): «نحن الآن مجتمع قائم على الشعور.. إذا لم نحب الحقائق، فلا نصدقها. إذا أحببنا شيئًا يعرض لنا سنعتبره حقيقة، حتى لو كان خطأً..» هذا هو السبب في حملات التضليل التي تستهدف الناس.. إذ يمكنهم إطلاق النار الإعلامية على خصومهم ومشاهدة الشرر يتطاير منها! هنا تتغذى نظريات المؤامرة على قاعدة سياسية جائعة تبحث عن سبب آخر للغضب من الطرف الآخر (فيشر).
لكن رغم كل ما تقدم، وما أشبعتنا به الدراسات من ظاهرة «غرف الصدى» وتأجيجها للاستقطاب السياسي والفكري فقد ظهرت دراسات تشكك بنتائج الدراسات السابقة مشيرة إلى أن الاستقطاب السياسي والتحزب والتعصب أكثر تعقيداً وأن ثمة أسباب أخرى.. إذ وجدت أن غالبية مستخدمي الإنترنت على اطلاع بمواقف الآخرين فيما يتعلق بالقضايا الخلافية وليسوا متقوقعين في شرنقة (سيث فلاكسمان وزملاؤه، جامعة أوكسفورد؛ دراسة مركز بيو حول الانتخابات الأمريكية 2016؛ ديبوا، جامعة أوتاوا).
الغريب والصادم هو ما أظهرته دراسة ضخمة كانت تتوقع أن تنوع مصادر الأخبار والآراء يقود للانفتاح على الآخر لكنها على النقيض وجدت أنه قد يؤدي لترسيخ الاستقطاب السياسي حسب ما وصل إليه فريق بحثي ترأسه كريستوفر بايل، من جامعة ديوك، فقد وجدوا خلال دراسات تجريبية أنه كلما اجتمع فريقان (محافظين وليبراليين) بمكان واحد زادت قناعة كل طرف برأيه.. مفسرين ذلك باحتمالية إحدى نظريات علم النفس بما يطلق عليها «تحفيز التفكير»، أي قوة تمسكنا بهوياتنا السياسية لدرجة نحفز عقولنا لتفنيد أي أدلة مناقضة لوجهة نظرنا، فيزيد ترسخ قناعاتنا.. «يبدو أن الألفة تولد الازدراء» يخلص تقرير الدراسة..
ورغم اختلاف الدراسات عن أسباب الاستقطاب السياسي فإنها تتفق على مسألة واحدة: «المصداقية»!! فلم تعد الأخبار ولا المعلومات في الإنترنت تستند على مؤسسات مهنية معروفة في الإعلام أو الأبحاث بل على تناثر أفقي هائل من أفراد وجماعات تنشر معلومات بلا مصدر أو مصدر غير موثوق أو على الأقل غير مهني.. كما أكدت دراسة حديثة نُشرت بمجلة «ساينس» انتشار الأنباء الكاذبة بسرعة تفوق كثيرًا الأنباء من مصادر موثوقة.
ما الحل؟ لا يبدو أن هناك حلاً سهلاً للتحزب في الإنترنت، بل يأمل الخبراء أن تساعد دورات التوعية بالإعلام التي تقدم بالمدارس والجامعات التي تحفز المهارات الأساسية للتفكير النقدي، ورصد سمات التحيز في الرأي في جعلنا أكثر قدرة على تمحيص مصادر الأخبار.
لكن إذا كان الحل يبدو صعباً، فربما هناك السهل الممتنع: بداية، من الاستعداد النفسي بعدم التصديق التلقائي، فإذا أتتك الرسالة حتى لو كنت تشعر أن مضمونها صادق، فقد لا تكون كذلك، فالمسألة ليست في الشعور بل في الأدلة المادية والعقلية.. اقرأ التعليقات والتحليلات المنطقية من الطرفين.. لكن الأهم قراءة ما يقال أنه حقائق بعين بصيرة وفطنة وتفحص عناصر الرسالة.. أما أسهلها فهو البحث في جوجل عن المصدر، لكن أغلبنا لا يفعلها بحجة ضيق الوقت، رغم أنه يمضي ساعات في قراءة ما يصله..