أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبد الرحمن: دفْعُ الشُّبَهِ عَمَّنْ أنجاهم الله: يتوقف أولاً على تحقيق القول في مرجع المشار إليه بقوله تعالى: {ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} [سورة فاطر / 32]، ويتوقف ثانياً على تمحيص أقوال المعربين في إعراب قوله تعالى: {جَنَّاتُ عَدْنٍ} [سورة فاطر / 33]؛ فَمِنْ شُبَهِهِمْ النحويةُ ما ذكره ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى بقوله: «قالوا: أما قوله تعالى: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ} [سورة فاطر / 32]: لا يرجع إلى الْمُصطَفين؛ بل: إمَّا أنْ يكونَ الكلامُ قد تمَّ عند قوله: {مِنْ عِبَادِنَا}، ثم اسْتُأْنِفَ جملةٌ أخرى، وذُكِرَ فيها أقسامُ العباد، وأن منهم ظالم، ومنهم مقتصد، ومنهم سابق؛ ويكونُ الكلامُ جملتين مستقلتين بَيَّنَ في إحداهما أنه أورث كتابه من اصطفاه من عباده، وبيَّن في الأخرى أنَّ مِن عبادِه ظالماً ومقتصداً وسابقاً.. وإما أنْ يكونَ المعنى تقسيمُ المرسلِ إليهم بالنسبة إلى قبول الكتاب، وأنَّ مِنْهم مَنْ لمْ يَقْبله؛ وهو الظالم لنفسه، ومنهم من قبله مقتصداً فيه، ومنهم من قبله سابقاً بالخيرات بإذن الله.. قالوا: والذي يدلُّ على هذا الوجه أنَّه سبحانه ذكر إرساله في كل أمة نذيراً ممن تقدم هذه الأمة؛ فقال: {وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلَا فِيهَا نَذِيرٌ} [سورة فاطر / 24]، ثم ذكر أنَّ رسلهم جاءتهم بالبينات وبالزُّبُر وبالكتاب المنير (الآيات الدالة على صدقهم وصحة رسالاتهم).. والزُّبُر الكتب واحدها زَبُور بمعنى مزْبور.. أيْ مكتوب، والكتابُ المبين من باب عطف الخاص على العام؛ لتميُّزه عن المسمَّى العامِّ بفضله وشرفه.. امتاز بها واختص بها عن غيره وهو كعطف وجبريل وميكال على الملائكة، وكعطف أولي العزم على النبيين من قوله: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} [سورة الأحزاب / 7]؛ والكتاب المنير ههنا التوراة والإنجيل.. ثم ذكر إهلاك المكذبين لكتابه ورسله فقال: {ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} [سورة فاطر / 26]، ثم ذكر التالين لكتابه؛ وهم المتَّبعون له العاملون بشرائعه؛ فقال: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهم مِّن فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ} [سورة فاطر / 29 - 30]، ثم ذكر الكتابَ الذي خص به خاتمَ أنبيائه ورسله محمداً صلى الله عليه وسلم؛ فقال: {وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ} [سورة فاطر / 31]، ثم ذكر مَن أورثهم الكتاب بعد أولئك، وأنه اصطفاهم لتوريثِ كتابِهِ؛ إذ رده المكذبون ولم يقبلوا توريثه».. [طريق دار الهجرتين ص 248 ـ 249].
قال أبو عبد الرحمن: هذه شُبَهُهُمْ قُدِّمَتْ عاجلاً، ولكن أين إزالتُها؟.. كلَّا لَمْ نجدْها نسيئةً، بل لم نجدها مُطْلَقاً؛ بل وجدنا العجبَ العُجاب؛ وهو الاحتمالُ الأوَّلُ؛ وهو تمام الكلام عند قوله سبحانه وتعالى: {مِنْ عِبَادِنَا}؛ ثم اسْتُأْنِف بجملة أُخْرىَ؛ وهي: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ} [سورة فاطر / 32].. إلى آخر سياق مَن لم يذكرْ ابنُ قيم الجوزية سياقهم.
قال أبو عبد الرحمن: ما شاء الله تبارك الله؛ ففي أيِّ لغةٍ أو عقلٍ: يكون من أورثهم الله الكتاب اصْطفَاءً منه جل جلالُه لاغِيْن باسْتِئْنافِ الكلامِ عن عموم العباد، ويُسْتَثْنَى، منه السابقونَ فقط، وَيُخْرَجُ الظالِمُ نَفْسَه والمقتصد مِمَّنْ اصطفاهم الله؟!..إنَّ هذا والله تلاعُبٌ بكلام الله.. أَهُمْ يقسمونَ رحمةَ ربِّنا.. لا والله بل خبر ربِّنا سبحانه وتعالى الجليُّ الواضح عن خُصُوصٍ عبادٍ اصطفاهم ربنا الكريم الجوادُ الرحيم، ووعدهم الجنَّةَ، وذكرَ شُكْرَهم ربَّهم: بأنْ أورثهم الجنة التي هي دارُ الْمُقامة، وبيَّن أقسام المُصْطفَيْن؛ وهم: ظالم نفسه، ومقتصد، وسابق؛ ذلك أنَّ منازِلَ من رضي الله عنهم على درجات؛ فليس نعيم الأنبياء كنعيم مَن ظلمَ نفسه فغفر له، وأدْخله الجنة في يوم التغابن، ولكن من رحمة الله: أنَّه يُزِيل عنهم الغبن إذا أورثهم منازِلهم؛ فيرى أنَّه لَمْ يُؤتَ أحد من النعيم مثل ما أُوْتِيَ هو، ومن العجب العُجاب دَعْوَى أنَّ التقسيم في الآية الثانية والثلاثين من سورة فاطر خاصٌّ بقبول عبادِ الله كلامَ الله والله سبحانه وتعالى لم يذْكُرْ جامِعاً للقسمةِ غيرَ الاصْطفاء والنجاةِ من النار، ولا يوجد في الآية الكريمة جامعاً للقسمة بأيِّ وجْهٍ يُعْقلُ غير ذلك.. وإلى لقاءٍ في السبتِ القادِم إنْ شاء الله تعالى, والله المُستعانُ.