محمد آل الشيخ
أتذكر أن مشايخ ما قبل الصحوة القميئة، كانوا إذا استفتاهم أحد في مسألة فيها قولان، يصرحون بخلاف الفقهاء حولها ولا يخفونه، ويجيبون المستفتي في الغالب الأعم بقولهم: (فيها قولان) ثم يجتهد وبأمانة ودونما تقصد أو غاية في أنفسهم، فيرجح المفتي أحد القولين، مستدلا على ترجيحه؛ غير أن الصحوة التي بعثها المتأسلمون الحركيون من جماعة الإخوان والسروريين، ألغوا وجهات النظر الأخرى متعمدين، وهم يعلمون، ويصرون في أقوالهم على قول واحد لا ثاني له ولا يحيدون عنه، رغم أن أغلب قضايا الفقه هي في محل خلاف بين المسلمين، منذ وفاة الرسول -صلى الله عليه وسلم- والتحاقه بالرفيق الأعلى؛ ومن المتفق عليه بين الصحابة وكذلك تابعيهم أنهم لا ينكرون على بعضهم المسائل التي يكتنفها خلاف بينهم، طالما أن القضية فيها قولان أو أكثر. غير أن الصحويين لأن لهم في الدين والتدين مآرب وغايات سياسية أخرى، عطلوا ميزة (التعددية) التي درج عليها وأقرها الفقهاء الأوائل، وأصبح الدين لا يحتمل إلا رأي واحد، وهو الرأي الذي يصب في مصالحهم ومصلحة تسلطهم على البشر والوصاية على حياتهم ومعيشتهم.
الرأي والرأي الآخر هو سمة من سمات العصر الذي نعيشه، وقد عرفه المسلمون الأوائل منذ القرن الأول، ومن اطلع على تاريخ الصحابة ومثلهم تابعينهم لن تُخطئ عينه هذه المزية، التي يستعيدها عالم اليوم، وينسبها إليه، رغم أن أول من أسسها ورسخها وجعلها حقا من حقوق العامة قبل الخاصة هم المسلمون في فجر الإسلام.
والسؤال الذي يطرحه السياق هنا: لماذا هذا التعسف في نصرة الرأي الأوحد في المسائل التي تحتمل الخلاف. السبب هو الأدلجة والتسييس، فالإسلام حوله المتأسلمون الحركيون إلى أيديولوجيا، وكان قبلهم (دين) يعنى أولا بعلاقة الإنسان بربه جل وعلا، لذلك حصر الفقهاء الأوائل أركان الإسلام في خمسة أركان، جميعها دون استثناء تنحصر في علاقة الإنسان بربه، ولم يكن ضمنها (إطلاقا) ماله علاقة بالسياسة أو الأيديولوجيا، أو حمل المسلم حملا على التدين بالأسلوب والطريقة والنهج الذي يطرحه المؤدلجون، والآيات في ذلك كثيرة ومتعددة، ومنها قوله جل شأنه: {فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا} ولم يشِر إلى عقوبة دنيوية وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ}، لكنهم لتجذير الأيديولوجيا غالبا ما يعطلون هذه الأيات الواضحة الصريحة بأحاديث آحاد، ومعلوم أن أحاديث الأحاد ظنية، أي غير قطعية الصحة، في حين أن الآيات القرآنية يقينية قطعية الصحة، ومن خلال هذا (التدليس) غير المنطقي، جعلوا السنة ظنية الثبوت والدلالة تلغي القرآن، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
وفي تقديري أن أفضل الطرق لقطع الطريق على أدلجة دين الإسلام هو إعادة نبش التراث الموروث، فما وافق القرآن الكريم، ولم يخالفه، من السنة قبلناه، وما اختلف مع القرآن اختلاف واضحاً أعدنا تحليله ومسبباته والزمن الذي قيل فيه، ولا نكتفي بالسند الذي قدس المحدثون بعض رجاله، وبذلك نكون قد وضعنا أقدامنا على إعادة تصحيح الخطاب الإسلامي الذي أدلجه المسيسون وانتهوا به إلى أن صار الباعث الأول للإرهاب.
إلى للقاء