د. محمد بن يحيى الفال
تعتبر معلقة شاعر البحرين طرفة بن العبد البكري التي احتوت على 121 بيتا من أشهر معلقات العرب في الجاهلية، وكان جُلها شعراً جزيلاً ملئ بالحكمة ووصف دقيق بتقلبات السنيين ونوائب الدهر ومنها هذا البيت:
عَن المرءِ لا تَسألْ وأَبصِرِ قَرينَهُ
فَكُلُّ قَرينِ بالمُقارنِ يَقتَدِي
ولو أسقطنا هذا البيت وتم تفكيك محتواه ومغزاه على ما تمر به منطقة الخليج العربي من أزمة خانقة سببها وكما معروف تعنت الحكومة القطرية وتشبثها بما أسمته برفضها التام لكل ما من شأنه تقويض سيادتها السياسية، وهو الأمر الذي كانت نتيجته كارثية ما زالت تقوض العمل الخليجي المشترك بشكل غير مسبوق، وهو العمل الذي كان نموذجًا ناجحاً تضرب به الأمثال في الشراكة المميزة والتعاون المثمر في العمل الإقليمي بين الدول. عليه وبتتبع للتحركات السياسية القطرية في العالم فقد أضحت مقولة السيادة السياسية هي بمثابة الشماعة أو التعويذة السحرية التي ما انفك المسؤولون القطريون في تردديها أين ما حلوا في عالمنا لشرح وجهة نظرهم وموقفهم من أزمتهم مع بعض شركائهم في منظومة مجلس التعاون لدول الخليج العربية بالإضافة لجمهورية مصر العربية. فما هي السيادة السياسية التي أصبحت المظلومية التي يدندن بها مسؤولو الحكومة القطرية؟ وهل تم انتهاكها حقاً كم يزعم الأخوة في قطر؟ ولعل السؤال الأهم هنا هو من أين جاءت فكرة المظلومية القطرية التي ترتبط بشكل أو بآخر ببيت الشعر الآنف الذكر والمليء بالحكمة؟
تُعرف الكثير من أدبيات القانون الدولي السيادة السياسية بأنها «عدم خضوع الدولة لأية قوة أخرى سوى قوة القانون الدولي الذي تلتزم بقواعده بإرادتها الحرة، وأن الالتزام بهذه القواعد لا يعني انتهاء السيادة ولا تراجعها بقدر ما يعني الاستجابة لمقتضيات التطور والتجاوب مع المصالح المشتركة للمجتمع الدولي»، فلو وعى المسؤولون في حكومة قطر ما جاء في تعريف السيادة السابق لما كانت هناك مشكلة بادئ ذي بدء مع الدول المقاطعة لها التي حاولت وبكل السبل السلمية والطرق الدبلوماسية إقناع الحكومة القطرية مراراً وتكراراً بأنها يجب عليها التوقف عن التدخل في شؤون الدول الداخلية المقاطعة لها مع ضرورة التزامها بروح ونصوص الاتفاقيات التي أبرمت معها لوقف تدخلاتها السافرة في شؤون الدول المقاطعة لها والتحريض عليها من قبل قنواتها الإعلامية المحرضة على الكراهية والعنف والفوضى. ومن هذا المنطلق يتضح بأن الدوحة تفهم السيادة السياسية فهمًا مُتلاعبًا به، فهي ترغب في احترام الغير له عندما يتعلق الأمر بسيادتها وتغض الطرف عنه عندما يتعلق الأمر بسيادة الآخرين. وتزداد الغرابة عندما نرى كيف أن مفهوم انتهاك السيادة السياسية هو مفهوم كان الأجدر بالحكومة القطرية أن تجد مبررًا آخر عوضاً عنه لتفسير موقفها من الأزمة معها بكونها هي آخر من يتحدث عنه لما لا يخفي على الجميع من تدخل علني وليس سري في شؤون الدول المقاطعة لها والتي كان لجمهورية مصر العربية في سابق الأزمة الخليجية وبعدها نصيب الأسد من التدخل العلني السافر الممنهج والمستمر ضد بلد مستقل وشقيق عربي وذلك بالتحريض الإعلامي الذي لم ينقطع ولسنوات ضد قيادته وكل ما يتعلق بشؤونه الداخلية التي هي أمر يخص الشعب المصري وقيادته. ولعل غرابتنا لما نراه من مظلومية قطرية ممجوجة لسيادتها السياسية تتبخر عندما نربطها بعلاقات الود التي تربط بين نظام الملالي والحكومة القطرية التي تقودنا إلى بيت القصيد لهذه المقالة وبيت الشعر الذي بدأت به وهو بأن التلميذ القطري تعلم من مُعلميه من الملالي ما اشتهروا به من خداع وتوظيف لكافة الموروثات الدينية والاجتماعية والسياسية من أجل الوصول إلى الغايات والأهداف المراد تحقيقها، فالملالي احترفوا توظيف الموروث الديني التاريخي المتعلق بالمظلومية لأحداث تاريخية أليمة شجبها أهل السنة والجماعة من العلماء والعامة على حد السواء وتبروا من تجرأ وأقدم على تلك الظائع، بيد أن الملالي في عصرنا الذي نعيش فيه وظفوها لنشر الكراهية والطائفية، وكانت نتيجة ذلك حمام دم لم يتوقف ضد من لا ذنب ولا ناقة ولا جمل لهم في حادثة مفجعة جعلت منها طائفة الملالي صراعاً أزلياً لا نهاية له، ونرى في سوريا ولبنان واليمن آخر حلبات صراعه الدموي، وبالعراق قبل ذلك أبان ترؤس نوري المالكي له للسنوات السبع العجاف. بنفس الآليات والتكتيكات نرى التلميذ القطري يتعلم من المُلا الإيراني أساليب الخداع والمراوغة وقلب الحقائق وتزويرها وجعل من ينتهك سيادة الآخرين يردد بأن سيادته منتهكة بلا خجل ولا وجل، وليصدق فيه قول طرفة بن العبد بأن القرين يقتدي بقرينه وليتضح ذلك جلياً بادعاءات حكومة قطر أكذوبة مظلومية انتهاك سيادتها السياسية.
ولعل المثال الواضح والعلني على من ينتهك السيادة للدول بالتحريض الإعلامي نراه بالعودة إلى الحديث عن العراق الذي أنهك خلال فترة السنوات السبع العجاف من حكم المالكي له ونرى فيه كذلك مثالاً جلياً للكيفية التي تقوم بها وسائل الإعلام من تغطيات مسؤولة وأخرى تأجج الصراعات وتحرض الرأي العام، فالمملكة التي كانت علاقتها السياسية غاية في التوتر مع العراق في فترة حكم المالكي فإن ذلك لم يمنع كافة وسائل إعلامها المسموعة والمقروءة والمسموعة في الوقوف مع الشعب العراقي ضد جرائم تنظيم داعش الإرهابي مع تقديم حزمة من المساعدات العينية والطبية لشعب العراق ومنها منحة بنصف مليار دولار، وفي مقابل ذلك كانت قناة الجزيرة القطرية الناطقة باسم حكومة الدوحة تسوق للتنظيم وتطلق عليه الاسم الذي يفتخر ويعتز به «تنظيم الدولة الإسلامية». وحالياً نرى دلائل وقرائن تتحدث عن نفسها لكل مما زال يعتقد بحيادية قناة الجزيرة الذراع الإعلامي لحكومة الدوحة ومعولها في نشر التطرف والتمزق والعنف، عليه فقط أن يقارن بين تغطية الجزيرة للحرب الدائرة في اليمن قبل وبعد الأزمة الخليجية ليرى العجب العجاب بين تقلب المواقف بين ليلة وضحاها ولتكون نتيجة ذلك انكشافًا غير مسبوق للحقيقة المظلمة لواقع القناة المُسيسة حتى النخاع والممزقة للسلم والأمن الاجتماعي في عالمنا العربي.
ثلاث حقائق يجب أن تعيهما الحكومة القطرية لإنهاء أزمتها مع شقيقاتها، الحقيقة الأولى هي أن دورانها في فلك حكومة الملالي لن يجديها نفعاً بل يزيد من هوة أزمتها وبأنها لن تحصد منه سوى تعلم المزيد من آليات المراوغة والكذب وقلب الحقائق التي سترتد عليها عاجلا أو أجلا، والحقيقة الثانية هي أن استقواءها بقوى خارجية دبلوماسيا وعسكريا لن يثمر إلا عن ضخ المزيد من الماء على زيت الأزمة، وثالث الحقائق ومحورها هو بأن عليها إعادة قراءة معنى السيادة السياسية وتطبيقه على نفسها الذي أضحى ديدن مظلوميتها المثيرة للشفقة.