د.محمد بن عبدالرحمن البشر
استهواني كتاب للسيد بيتر برنشتاين اسمه سطوة الذهب، وهو يحوي الكثير من المعلومات القيمة التاريخية والاقتصادية المتعلقة بالذهب، ولعل من المناسب طرح شذرات مما ورد فيه شيء من التصرف، وفي هذا المقال سيكون الضوء مسلطاً على العملة وتاريخها، والذي لعب ومازل يلعب الذهب فيها دوراً بارزاً.
الحقيقة أن هناك الكثير من المواد التي تتمتع بالقيمة، كما أن هناك مواد ليس لها قيمة مادية وبحالتها الطبيعية، مثل الهواء، لكن هذه المواد الكثيرة ذات القيمة لا يمكنها أن تلعب دور المال، بل أن الكثير من أنواع المال نشأت من مواد ليس لها قيمة في الأصل، مثل الصور التي تظهر على شاشة الكمبيوتر، أو العملات الرقمية، وبعض أنواع الورق.
وفي بريطانيا في أزمنة مضت كانت الماشية تلعب دور المال، إضافة إلى العبيد أيام استعباد البشر، وإن كانت الكنيسة أحياناً تتردد في قبول العبيد كفارة عن الآثام، إلاّ أن تلك الممارسة كانت سائدة، وكانت القيمة تحدد بالقانون.
في القرون الوسطى شاع استخدام الفلفل، واستمر مدة من الزمن، وفي مناطق أخرى لعبت الماشية دور المال، بالإضافة إلى دورها الرئيسي كغذاء، واستمرت هذه الممارسة حتى وقت قريب في بعض مناطق أفريقيا، وقد أدى ذلك إلى انخفاض أعداد الخراف والماعز بما يزيد عن 66 مليون رأس بين سنتي 1955 - 1976 ، والحقيقة أن ذلك انحسر في الوقت الحاضر، ولم يعد أي شيء ذو قيمة يلعب دور المال لفترة طويلة، وعلى سبيل المثال السجائر التي كانت تستخدم في ألمانيا إدارة مالية في الأيام التي تلت الحرب العالمية الثانية، تم استخدامها للتدخين فأصبحت دخاناً يخرج من أنوف وأفواه المدخنين إلى الهواء الطلق ليجعلهم عرضة للأمراض، وليضيفوا إلى الهواء مزيداً من التلوث.
الذهب عديم الفائدة في معظم الأغراض العملية، لأنه ليس في صلابة الفولاذ مثلاً، كما أنه نادر جداً، فلا يتوفر منه في العالم سوى نحو 125 ألف طن، ولهذا يصعب استخدامه في أغراض كثيرة.
هناك عملة استخدمت في بعض أجزاء آسيا اسمها كوري، وهي نوع من الصدفات، إلا أنها لم تصمد كثيراً بينما صمد الذهب لخصائصه الفيزيائية، فهو متين وقوي ولا ينكسر بسهولة، كما أن الناس تعارفوا على أن كل قطعة ذهب ثمينة، وتحتوي على قيمة عالية، ويسهل التعرف عليها سواء صغرت تلك القطعة أو كبرت، كما أنه يمكن تقدير قيمتها على قدر وزنها ونقائها، وهذا متاح ويسهل التعرف عليه، من الصعب تطبيقه على الماشية مثلاً لو استخدمت مخزن للقيمة.
الحقيقة أن ما يستخدم الآن من أدوات للمال وتخزين القيمة، هي أفضل وأيسر من الذهب، مثل العملات الرقمية، والورق الذي يمكن أن يطبع منه ترليونات بتكلفة زهيده، وكذلك الصور التي تظهر على شاشة الكمبيوتر، وتختزن القدر الأكبر من القيمة في عالمنا الحاضر، وهي لا تستخدم لدى غرض آخر، وهي تزن أقل من الذهب والورق، ويمكن التعرف عليها بسهولة، ويمكن تحويلها إلى أجزاء.
مع كل ذلك ظل الذهب معياراً للقيمة، فمن القاعدة الذهبية، وحتى ذهب الأولمبياد، مازال الذهب محترماً ومستخدماً كمادة عبر التاريخ وحتى يومنا هذا.
النفس البشرية تريد شيئاً ملموساً لترى مقدار القيمة لديها، ولاشك أن الذهب هو ذلك الشيء الوحيد الأكثر تطميناً لدى الشعوب التي نراها بدائية في تعاملها مقارنة بما نحن فيه الآن.
يقول فيرنيس متحدثاً عن جزيرة باب الصغير في جزر كارولين، والتي أمضى فيها عدة شهور عام 1903 : ((في بلد ينمو فيه الطعام والشراب والثياب الجاهزة على الأشجار حيث يمكن الحصول عليها عن طريق جمعها، يصعب تصور رجل يغرف في الديون لتأمين تكاليف معيشته، ورغم ذلك يرغب الناس في الحصول على رمز ملموس للجهد الذي بذلوه. رمز يمكن جمعه بشكل ثروة)).
كان المال، أو مخزون القيمة، أو المبادلات في تلك الجزيرة تسمى فئ، وكانت تتكون من دواليب صخرية صغيرة، وكبيرة بعضها يصل إلى حجم الرحى الكبير، يصنعون بوسطها فتحة ليسهل جرها، وغالباً تبقى مكانها في الصفقات الكبيرة، وتنتقل ملكيتها من شخص لآخر من خلال كتاب موثق، والحقيقة أن هذه الأحجار قد جلبت من جزيرة مجاورة استطاع أحد الأشخاص أن يقنع أصحاب هذه الجزيرة بأهمية الصخور.
ويبدو أن لفظ الفئ تم أخذ من الكلمة العريبة دون تحريف حتى في أحرفها الإنجليزية، وهي ربما من ثقافة المسلمين في أوقات مضت.
وسوف يتم التطرق إلى الكثير حول هذا الموضوع في مقالات لاحقة.