ياسر صالح البهيجان
هل ثمة حقًا وقت يمكن أن نسميه ضائعًا إن كانت الأوقات جميعها تقع ضمن نطاق الوقت الأصلي في حياتنا؟، بمعنى آخر، هل بإمكاننا أن نجعل حياتنا كلّها من أولها إلى آخرها ذات قيمة عالية وفق منظورنا دون هدر ولو يسير في بعض أجزائها؟
لا تزال البشريّة تواجه مأزق الاعتقاد بأن الاستجمام والابتعاد قليلاً عن العمل المضني يُعد هدرًا للوقت، لذا يظل الإنسان راكضًا في معترك الحياة إلى أن يسقطه التعب أرضًا. يسعى جاهدًا لتفادي أوقات الفراغ لظنه بأنها تستهلك عمره دون جدوى، ولم يفكّر يومًا بأن قيمته الوجوديّة تكمن في وجوده الإنساني، وأن بمقدوره أن يتحوّل إلى فرد مُنتج بعيدًا عن منطق إنتاج الآلة وما يمليه الاقتصاد الرأسمالي من مفاهيم متعلقة بالسوق والعرض والطلب والمنتج والتسعير.
وتظهر أزمة مفهوم الإنتاجية في الحياة بوضوح لدى أولئك المتقاعدين عن العمل، أو من عجزوا عن شغر مقعد وظيفي. يتسلل إليهم الشعور بأنهم أقل قيمة ممن يعملون خلف المكاتب أو في الطرق والشوارع، على الرغم من أن لديهم إمكانات أكبر للاستمتاع الحر في الحياة، قضاء أوقات أطول إلى جانب أسرهم، تجربة أشياء جديدة كانت الوظيفة بمشاغلها وارتباطاتها عائقًا أمامهم لعقود من الزمن، الترحال واكتشاف أماكن لم يتمكنوا سابقًا من زيارتها.
كان الطبيب الجراح في علم الأعصاب بول كولانثي منشغلاً عن أسرته، وهواياته بالعمل في المشفى لمائة ساعة أسبوعيًا اعتقادًا منه بأنه سيصعد سريعًا في سلّم الترقّي الوظيفي، قبل أن يشخصه الأطباء بمرض سرطان الرئة من الدرجة الرابعة وهو في عمر 36 رغم أنه لم يكن مدخنًا.
أخذت حياة الدكتور بول منحى آخر جعله يتساءل بصدق عن قيمة الحياة الحقيقية في كتابه «عندما تصبح الأنفاس هواءً»، وتمنى لو عاد به الزمن ليقضي وقتًا أطول إلى جانب زوجته ووالديه، وأن يعيش تجربة الأوقات المُهدرة بالاستجمام والترحال والاستمتاع، لذا كان يسابق الزمن في إنتاج كتابه آنف الذكر، وقد قضى نحبه قبل إكماله، لكنه زوجته أصرّت على طباعة الأجزاء التي دونها كولانثي قبيل وفاته.
هل نحن بحاجة لعيش تجربة كولانثي لنستشعر قيمة الوجود الإنساني بعيدًا عن العمل المرهق؟، الباب لا يزال مشرعًا أمامنا لإعادة تقييم حياتنا ومفاهيمنا حول الأوقات المُهدرة التي قد نتمنى يومًا ولو ساعات منها لنعيش الحياة التي كنّا نتمناها.