محمد المهنا أبا الخيل
تحدثت في مقالي الأسبوع الماضي عن ثقافة الانهزام وكونها تولد شعوراً اجتماعياً جمعياً ضاغطاً للخلاص من اللوم الذاتي في اتجاه لوم الآخرين سواء كانوا قادة أو شعوباً أخرى ساهمت بشكل مباشر أو غير مباشر في الهزيمة.. وفي مقالي اليوم سأتحدث عن أهم إفرازات الشعور بالهزيمة، وهو التطرف الفكري بأي صورة كان وما يؤدي له من قيام حركات ثورية بمنتجات عنيفة ومدمرة، فالهزيمة التي تأصلت في الفكر العربي نتيجة توالي الغزوات الصليبية والتتارية والمغولية ثم قيام الدولة العثمانية وتعاملها مع العرب كوحدة اجتماعية دون القدر للمكون التركي في الدولة، ومن ثم توالي الهجوم الاستعماري الغربي على بلاد العرب والتسلط عليهم وتقسيم بلادهم وزرع العداوات بينهم وانتهاء بتكوين إسرائيل، محصلة ذلك جعلت الثوريين العرب اليساريين يلقون من باللوم على الدولة العثمانية والاستعمار الغربي والثوريين اليمينيين يلقون باللوم على القيادات والأنظمة العربية، وفي كلا الجانبين تطرف بعضهم في صورة تكوين منظمات فكرية أريد بها فرض تغيير توجه فكري واحد للمجتمع العربي.
ساد التطرف الفكري العالم كأحد إفرازات الحرب العالمية الثانية، بل إن بعض حركات التطرف أو الحركات المؤسسة للتطرف كانت أحد إفرازات الحرب العالمية الأولى مثل حركة (النازية) و(الفاشية) وربما أسس لذلك كأحد نواتج الحروب الفرنسية التي قادها نابليون ضد الممالك الأوربية، فالشعوب التي هزمت في الحرب العالمية الثانية تطور لديها منظمات فكرية غير راضية عن الواقع السياسي والاجتماعي الذي أفرزته الهزيمة، وسرعان ما تحولت هذه المنظمات الفكرية إلى منظمات صراع مع سلطات بلادها وكثير من تلك المنظمات تبنت المشروع (الشيوعي) لما كان يحمله من مضامين ثورية تتوافق والنفسية المهزومة.. لذا ظهرت في ألمانيا الغربية منظمة (بيدرمانهوف) وتبنت الإرهاب كسلوك للتغيير السياسي في ألمانيا وكذلك حدث في إيطاليا، حيث تأسست منظمة (الألوية الحمراء)، وفي اليابان تأسست منظمة (الجيش الأحمر)، وفي إسبانيا وإيرلندا قامت حركات قومية تطالب بالانفصال القومي عن كل من إسبانيا وبريطانيا.
في العالم العربي وبفعل الشعور بالهزيمة أيضاً قامت حركات ومنظمات فكرية كحركة (القومية) وحركة (البعث) ولكونها حركات يسارية راديكالية، فقد توافقت مع الطروحات الاشتراكية أو الشيوعية ولكنها لم تستطع قبول الفكر الشيوعي بمجمله لما يتضمنه من أفكار إلحادية لا تتطابق والتوجهات الدينية لمعظم العرب، وبما أن الحركات اليسارية كانت تلقي باللوم في الهزيمة على الدولة العثمانية والاستعمار الغربي فقد وجهت ثوريتها تجاه الأنظمة العربية القائمة في صورة تغيير عنيف عبر الانقلابات والإرهاب والاغتيالات.. وفي الجانب الآخر من الطيف السياسي العربي برزت المنظمات اليمينية والتي كان أبرزها (جماعة الإخوان المسلمين)، والتي يرتكز فكرها السياسي على لوم الحكومات العربية وارتهانها لواقع الهزيمة، لذا هي تسعى لبعث (الخلافة الإسلامية) وتكوين وحدة إسلامية شاملة. وجماعة الإخوان المسلمين هي أيضاً تبنت ممارسات عنيفة تمثلت في الاغتيالات والتآمر وتكوين خلايا سرية تآمرية في البلدان التي تنشط فيها.
مع ضمور التأثير الاشتراكي والشيوعي في المنطقة العربية، انحسرت النزعة اليسارية للفكر الثوري العربي، ومع هزيمة الاتحاد السوفييتي في أفغانستان أصبح الفكر الثوري العربي مرتهناً للطروحات الفكرية الإسلاموية، وخصوصاً طروحات (جماعة الإخوان المسلمين) والمنظمات المنبثقة منها أو المنشقة عنها، وبات استدعاء التاريخ وخصوصاً تاريخ الفتوحات الإسلامية أحد مكونات الفكر الثوري والذي تبلور فيما بعد وعرف بتيار (الصحوة)، حيث تماهى مع دعوى (جماعة الإخوان المسلمين) وتبلور عنه تأسيس منظمة (القاعدة) وما تفرع منها لاحقاً كحركات تطرف إرهابية مثل (النصرة) و(داعش).. هذه الحركات أيضاً تزامن حضورها مع حركات إرهابية أخرى تعتمد المذهب الشيعي كعقيدة سياسية وتدعو لطاعة (الولي الفقيه) لحين بروز الإمام المنتظر مثل: (حزب الله) و(أنصار الله) و(الحشد الشعبي)، فكل هذه الحركات لها طروحات فكرية متطرفة ولا يمكن أن تقبل بها المجتمعات العربية لكونها غارقة في المثالية وأشبه ما تكون بالأحلام، لذا تعتمد هذه الحركات المتطرفة العنف والإرهاب كسبيل للوصول إلى السلطة ثم فرض تلك التصورات الفكرية.
يتميز الفكر الثوري باندفاعية شرسة تجاه الحاجة لتحقيق الطموحات وذلك لطبيعة التطرف التي تشكل محوره الفكري، فالمتطرف يشعر بعدم استساغة معظم المجتمع لطروحاته الفكرية، لذا يدرك أن تحقيق تلك الطروحات لن يحدث بالطرق السلمية القائمة على عرض الفكرة وجدالها في المنتديات والمحافل، لذا يميل للعنف وخلق حالة من القلق تربك الفكر الجمعي وتقود لخلل أمني وسياسي واقتصادي يتيح لطروحاته مجال وحضور إعلامي، ولذلك تحتاج هذه المنظمات الإرهابية إلى عمليات تمويل لنشاطاتها تستلزم أموالاً كثيرة قد لا تتوفر لها بمجهودات أعضائها، لذا تجنح هذه المنظمات إلى الاعتماد على تمويل جهات خارجية مقابل خدمة أغراض تلك الجهات، وهكذا ونتيجة لضحالة الفكر السياسي لدى تلك المنظمات تنجرف عن هدفها الأساسي وتصبح أداة تنفيذ أجندات خارجية، وتمتهن الإرهاب كوسيلة بقاء.