د. خيرية السقاف
لم تكن تعبأ بالرصيف من الشارع الذي تنحدر منه لتأخذ على ناصيته مساحة صغيرة تفرد فوقها مبيعاتها من الحلوى, وبعضا من ملابس الأطفال, وألعابهم, والمارة يبهجونها بالشراء, وبعضهم يتوقف لإلقاء نظرة ثم يمضي بلا كلمة, وهي في كل يوم عندما تأوي إلى دارها, تعد حصيلة يومها, التي قد لا تصل لبضعة ريالات في بعض الأيام, وتقبِّل ظاهر كفِّها اليمنى وباطنه حمدًا لله على ما كسبت, لم تكن تعبأ بنظرات المارة الذين كثيرا ما يسألونها أن تعود لدارها وقد انحنى ظهرها, وتغضن وجهها, فتسأل كيف عرفوا وهي تسدل خمارها فوق وجهها, وتخفي جسدها في ملاءة فضفاضة, لا يظهر منها سوى عينيها, وكفيها؟!..
فإذا ما أخذت بعض النساء بالتوقف والجلوس إليها للشراء فهن يرددن النداء ذاته الذي ما انفك أحد عن مناداتها به «يا خالة, فتتأكد بأن ثمة ما يجعلهم يتعرفون حالها, «أنا امرأة أكل الزمان معي وشرب, كنت أحفر مع أبي مجرى للسيل المار بحقلنا كي لا يغرق زرعنا ومحاصيلنا, وأشذب معه الشجر, وأحطب, وأقطف الثمر وأبيع, إيه زمن, أجل زمن, يبدو أنه يتكلم»,
لكنها كلما نوديِتْ «يا خالة» تحدث نفسها: «لكنني لم أفرح, لم أحلم, لم أعش كالبنات السعيدات, ولا كالنساء المرفهات, لم أكن محضنا لوليد, ولا رفيقة لأليف, مرت بي الأيام تركض, تجرني كعربة موثقة خلف حصان, أو ربما خلف حمار, من الحقل للمدينة, أخذتني المدينة في منعطفاتها بعد رحيلهما, أمي وأبي, قسرتني كي أفترش على هذا الرصيف بضاعتي,
وخلفي وأمامي إيجار الدار, مأكلي ومشربي, مفتاح حجرتي, وإناء لقمتي, ووسادتي, وكسوتي»..
ثم شابة يافعة تناديها: لو سمحت يا «أمي» كم سعر هذه اللعبة؟!
شهقت فرحًا, حملت اللعبة, قدمتها إليها وهي تقول لها: ليس لها ثمن, هي لك هدية!!..
وبعد حوار قصير بينهما أخذت الفتاة اللعبة, وقبل أن تذهب اقتربت منها, حضنتها وهي تخبرها بأنها سوف تقدم هذه اللعبة لصغيرها هدية منها, ثم مضت وصدى شكر اليافعة يجلجل في صدرها..
نظرت لبسطتها طويلا, وللرصيف المستطيل, لملمت بضاعتها, وانطلقت مسرورة,
فالسنون على كتفيها اختصرتها الشابة اليافعة في ندائها «أمي»!..
كما إن اللعبة ستكون بين يدي حفيدها الذي لا تعرفه!!..