إن المتأمل في حياتنا اليوم يجد أن الاكتشافات والابتكارات في العقدين الأخيرين لها تأثير ملحوظ على طبيعة النظام العالمي الحالي، خصوصاً فيما يتعلق بالطاقة البديلة والاختراعات التقنية. كما أن المتغيرات العصرية الأخرى المرتبطة بالعولمة أصبحت تدخل في تركيبة المجالات الحياتية، واستشعار هذا التغيير لدى معظم الأفراد بيننا بدأ يرسم إيحاءات لديهم أننا نمر بمرحلة تغيير، وأن ما نعمله اليوم قد لا يكون ذا قيمة غداً، مخلفاً بدوره شعوراً بالقلق في كيفية الحفاظ على قيمة ما نفعله اليوم، وهذا الشعور أوجد نوعا من المقاومة لأغلبية الأفكار الجديدة المؤثرة في نمط وقيم الحياة السائدة حالياً.
ومقاومة التغيير هذه ناتجة عن شعور القلق المتولد من الخوف بسبب الغموض الناتج عن عدم معرفة طبيعة التغيير ونوعية التحديات الموجودة المصاحبة له، وعن مدى قدرتنا على تذليلها والتعايش معها.
ولكن كلما زاد الإنسان معرفة بطبيعة هذا التغيير أصبح أقل قلقاً وأكثر تقبلاً له، فالتغيير إلى نظام حياتي جديد أصبح محسوساً لدى معظمنا وأننا على أبواب الانتقال إليه، كما أن مجال هذا النظام بدأ يتضح لدى معظمنا (المجال الرقمي) بالإضافة إلى اتجاهاته أيضا (أتمته الحياة بمعظم جوانبها)، كما أن التغيير في أي نظام حياتي في الغالب يصاحبه تغيير في القيم داخله؛ لأن قيم النظام الجديد تعتمد في مبادئها على المعرفة التقنية والقدرة الفكرية الاستنباطية والاستقرائية لما يحدث حولها، ولهذا فإن معظم قيمنا اليوم بدأت تتجه نحو كونها غير تقليدية متطلبة إيجاد نظام حياتي داخل مجتمعنا ينظم آلية تداخلها مع أسلوب معيشتنا.
وهذا لا يدع لدينا مجالاً للشك في أن الانتقال إلى النظام الجديد أصبح محسوماً، وأن من سيقاوم هذا التغيير سيتخلف عن الركب وسيضطر في نهاية الأمر إلى محاولة اللحاق به، وتعود حتمية هذا الانتقال لقيم النظام الجديد التي بدأت تؤثر وبشكل كبير في طبيعة صناعة قيمنا العامة، نظراً لما لهذا النظام من مميزات كالدقة والفاعلية والسرعة التي يمتاز بها في توفير القيمة المطلوبة بالتحديد، فالذين كانوا يقاومون التكنولوجيا نجدهم اليوم أكثر الأشخاص استخداماً لها، ولهذا نرى أن التغيير يحدث تدريجياً، وأن محاولات مقاومة التغيير لهذا النظام ستبوء بالفشل بل وسيضطر المقاومون إلى تقبلها والتعايش معها، وقد تصل بهم إلى عدم الاستغناء عنها في وقت لاحق.
وفي كثير من الأحيان تصاحب تحولات القيم حالة من الاضطراب، وهذا الاضطراب يكون على نوعين: أولهما: الاضطراب الجماعي: الذي يؤثر غالباً في الرأي العام، وثانيهما: الاضطراب الشخصي: وهو اضطراب متعلق بطبيعة الهوية الشخصية وقيمتها داخل المجتمع، فالمقاومة الجماعية غالباً تكون أكثر تصريحاً، وهذا يعود إلى أن المقاومة من قبل أغلبية المجتمع ما هو إلا سعيٌ منهم للحفاظ على نمط المعيشة داخله، وهذا يعطي مؤشراً على ضعف وسيلة التواصل في التعريف بطبيعة التغيير الحاصلة، وأن ما يحدث ليس إلا شعور الخوف من الغموض كما ذكرت آنفاً.
أما في الاضطراب الشخصي فإن المقاومة تكون أقل تصريحاً، ولكنها أكثر حدة، ويعود ذلك إلى أن دافع المقاومة هو الحفاظ على بقاء القيمة المكتسبة للشخص والتي بذل في صناعتها وقتاً وجهداً لا يستهان به، وحالة التغيير هذه متعلقة بالجانب الشخصي وهي من أصعب الحالات التي يتم التعامل معها، لأنها تمس تركيبة الهوية الشخصية وأسلوب تعايشها في المجتمع، وبذلك فإن مقاومة التغيير الناشئة من الاضطراب الشخصي تستغرق وقتاً طويلاً حتى يتم تقبل التغيير والتعايش معه، وغالباً ما يصاحب التغيير من نظام إلى آخر، وخاصة ما تعلق منها بالقيم «غياب رموز ونخب وخروج غيرها».
كما أن النظام الحالي لا يزال يعتمد غالباً على تحديد قيمة الشخص من خلال وصفه الإسمي بينما في النظام الجديد أصبح استخدام الرموز الرقمية هو السائد، ولازال هنالك صراعٌ قائمٌ متعلق بطبيعة التحول في نوعية أساليب تحديد الأشخاص والمرتبطة بقيمهم لتكون بأساليب رقمية رمزية أكثر من كونها إسميه وصفيه، وقد نلاحظ ذلك في أرقام السجلات المدنية وغيرها المتعلقة بتعريف الأشخاص لدى المنظمات العامة حول العالم.
وهذا التحول من الوصفي إلى الرقمي أوجد تحدياً قوياً في نوعية تغيير الهوية الشخصية بمجتمعها المحيط بها، حيث إن الارتباط بالهوية الشخصية وتقديرها لذاتها غالباً ما يرتبط بطبيعة رؤية المجتمع لها من الناحية الوصفية وحين تحولت نوعية هذا الارتباط من كونها وصفيه إسميه لتصبح رقمية رمزية فإنه هذا سيؤثر على طبيعة رؤية المجتمع لارتباط الهوية الشخصية الوصفي داخله، وبهذه الطريقة فإن الأولويات على مستوى الهوية الشخصية سيعاد ترتيبها لتكون الاستقلالية الذاتية أحد أهم مكونات الهوية الشخصية والمؤثرة في طبيعة تكوينها.
وترجع أهمية الاستقلالية الذاتية في تكوين الهوية الشخصية داخل النظام الجديد إلى دقة وفاعلية التحديد والتصنيف للتقنية المكونة لهذا النظام، وهذا يقودنا إلى أن القيم سيعاد ترتيبها داخل المجتمع، وبطبيعة الحال فإن الاختلاف في القيم الفردية يعود في معظمه إلى الكفاءة الشخصية، وهذا سيسبب تغييراً في طبيعة الارتباط داخل المجتمع بحيث سينتقل الترابط لأن يكون على أساس الكفاءات ونوعياتها أكثر من أسس العلاقات الاجتماعية الأخرى، وبهذا فإن المنافسة ستكون قوية في نوعية الكفاءات ومدى تأثيرها في تكوين القيم داخل النظام الجديد، وستكون نوعية الكفاءة الأقوى هي التي ستؤثر وتتأثر بالمتغيرات التقنية، وأن عملة التأثير والريادة في النظام القادم ستكون هي الكفاءات التقنية والعقول المتأملة وقدرتهما في التأثير وتوجيه مسار المتغيرات التقنية.
** **
د. مرزوق الرويس - متخصص في الإدارة العامة
Alrowis.marzook@gmail.com