قاسيةٌ هي الحياة، إذا عاش الإنسان فيها أسيراً لذكرياته، لا يستطيع الفكاك منها، ولا هي تبرح مكانها في عقله وقلبه، فتتبعه أينما يسير، ويسير خلفها حيثما سارت، مأخوذاً، مسلوباً، مجذوباً، فيظل فريسة وخزها الشائك، يتقلب على جمرها الملتهب كلّما هبّت نسمةٌ منها على خاطره، أو زارت قدماه موطناً من مواطنها، فتهتاج عليه وتلاحق أنفاسه. وتكون الحياة أكثر قسوة على الإنسان حين يقطع الزمانُ طريق أمسه عن غده، فيعيش في الماضي، مكتفياً به، لا يعي حاضره ولا يفكر في مستقبله، فيعيش كمن فقد وعيه.
والماضي للإنسان تربته التي نبت فيها، واحتضنت ثراها جذوره، إنه يستمد منه رحيقه وأنفاسه، ونبضات حياته، وحين نعود إلى الماضي، ولو في زيارة خاطفة، فإننا نعود إلى الحياة أو تعود إلينا الحياة، غير أن هذه العودة، أحياناً ما تكون نوعاً من المعاناة، وضرباً من النزف والألم الداخلي، ومن التقلب على جِمار الشجن الكاوي، هكذا كانت زيارتي الأخيرة إلى قريتي بعد غياب عنها، فبعد رؤية الأهل والأحباب، والاطمئنان عليهم، شعرت أن شيئاً ما، بل أشياء عديدة، افتقدها، يخلو منها المشهد، وأشياء كثيرة قد تغيرت، في المكان وأهله. غاب أناسٌ، وحضر آخرون، تغيرت الوجوه، وتغيرت الملامح، وتغير الزمان، وتغير المكان، حتى الهواء الذي كنا نتنفس أشعر أن مذاقه وتركيبه قد تغير.
قريتي، لم تعد قرية، قريتي أمست مدينة، كما يقول الشاعر العراقي «بُلند الحيدري» في قصيدته «خطواتٌ في الغربة»:
«لن أعود.. ولمن أعود.. فقريتي أمست مدينة».
وقريتي التي تطل برأسها على الريّاح البحيري، المجرى المائي الكبير، والمتكئة بجزعها الممتلئ على فرع رشيد أحد فرعي النيل، تقف فاردة قامتها الممتدة؛ تلقي برأسها على الطريق الزراعي الذي يربط بين مدينتي القاهرة والإسكندرية. على مشارفها، يطلّ نخيل باسق (فيما مضى)، ويمتد من رأسها وعبر قامتها الفارعة طريقٌ كان مترباً، كان عمّال المجلس المحلي يمطرونه بالماء كل صباح؛ حتى يسكن غباره وتتيبس صفحته، وتم رصفه في أواخر الثمانينيات من القرن الماضي. كانت ترافق هذا الطريق أشجار الكافور الممشوقة القوام، وبعضاً من أشجار الجميز، الذي يزين جيده ثمار صفراء وحمراء، وتصحبه ترعة مُترعة بالماء تغذِّي زروع القرية، ويصافح عينيك المدى الأخضر من الحقول المترامية على جانبي الطريق، حتى تلتقيك «المقابر» على بعد منه، حيث يسكن الراحلون من أهلها، نلقي السلامَ عليهم في الصباح وفي المساء ونقرأ الفاتحة، وحيث يتبادر إلى سمعك صوتٌ ذو إيقاع رتيب لماكينة الطحين يعلو هديره شيئاً فشيئاً، والتي عادة ما كان يتناهى صفيرها المميز كل صباح، إلى مسامع أهل القرية؛ ليعلن عن بدء يوم عمل جديد، تطحن فيه حبوب القمح والذرة لأهل القرية والقرى المجاورة، وكانت من المعالم التراثية المميزة في قريتنا التي كنا نتباهى بها. وعندها تبدأ بيوت القرية تتوالى في الظهور شيئاً فشيئاً في تتابع مضطرد؛ حتى تلتقي عيناك بمدرسة القرية العتيقة، وعندها يتفرع الطريق يميناً ويساراً؛ ليشكل طريقاً دائري كحزام يحيط بخصر القرية تتصل به أفواه شوارع القرية المتفرعة منه، وكأن عبد المعطي حجازي كان يتحدث عن قريتي، عندما قال عن قريته، تلك التي لم تكن تختلف عن قريتي ولا تبعد عنها كثيراً، في قصيدته «كان لي قلب» من ديوانه الأول «مدينة بلا قلب»:
- وقريتنا .. بحضن المغرب الشفقي
رؤى أفقِ
مخادعُ ثرّةُ التلوينِ و النقشِ
تنام على مشارفها ظلالُ نخيل
ومئذنة .. تلوّي ظلّها في صفحة الترعة
رؤى مسحورةٌ تمشي
وكنت أرى عناق الزهرِ للزهرِ
وأسمعُ غمغماتِ الطيرِ للطيرِ
وأصواتَ البهائمِ تختفي في مدخلِ القرية
وفي أَنفي روائحُ خِصْب
هكذا كانت قريتي في الطفولة ومطلع الصبا، وهكذا بقيت صورتها في خاطري وفي قلبي، وهذا مكمن المعاناة، التي أعانيها كلما زرت القرية بعد غياب عنها، فكلما عدت إليها استدعي صورتها القديمة، وتداهمني ثورة الذكريات رغبة مني أو رغماً عني، فتأبى علي وتستعصي، وكأن حالي معها هو حال قيس ابن الملوح مع جبل التوباد، كما قال شوقي على لسانه:
كلما جئتك.. راجعت الصبا
فأبت أيامُهُ أن ترجعَ
الطريق، الذي كنا نرى العاملين في المجلس المحلي يرشونه بالماء يومياً، وكم كان نظيفاً جميلاً يوم رصفه، وكنا نستمتع بالسير عليه على أقدامنا، صار متهالكاً، متآكلاً دميماً، مشوهاً كوجه طفل يفترسه الجدري، صرنا نختنق بالسير عليه ونحن في سيارة، أو في «توك توك»، وصار الضجيج والزحام مزعجاً، وصارت هذه المركبات النارية الصغيرة كالحشرات الزاحفة، صراصير تجري هنا وهناك، ولا تكف عن النعيق والزعيق، وعلى هذا الطريق، تتعثر عيونك وأقدامك في شباب غريبي السحنة والملامح، أو بلا ملامح تماماً كالطريق.
الترعة التي تعانق الطريق وترافقه أينما ذهب، جف ماؤها، وخبا رونقها، وذهبت هيبتها، وداهمها العفن، دفنوا بعضاً منها تحت الأرض فافترقت عنه وافترق عنها. ولفت نظري ذلك الزحف العمران، الذي غدا كمرض سرطاني شرس، ينهش في جسد المدى الأخضر، يلتهمه على مهل، ويسحقه تحت سطوته الطاغية، وصار يهدد حتى مقابر الأموات، ويزعج مضاجعهم، ويخنق أنفاس الحقول المترامية على جانبي الطريق الرئيس للقرية، ويشوه أناقتها وبقايا بريقها.
اختفت أشجار الكافور، التي كانت تكتنف الطريق، وأشجار الجميز المترع بالثمار المتوهجة صفرة وحمرة، أو كادت. بدت باهتةً شاحبة، وقد أودت الأتربة والغبار اليومي على نضارتها، ولوّثت خضرتها، ونزعت عنها ثياب بهائها، فهجرتها الطيور، ولم تعد تسكنها، وغابت عنها أصوات العصافير، وأعشاش اليمام، التي كنا نبحث عن أعشاشها ونتتبع صغارها؛ لنصطادها ونربيها، ولم يعد لها ظل يأتنس به المستجير من الرمضاء والمستريح من السير.
حتى شارعنا القديم، الذي كان مهد البراءة ومرتع الطفولة والصبا، كادت تتوه أقدامي عنه، فلم تستبنه، كما ارتابت عيناي في ملامحه، صار ضيقاً خانقاً. البيوت تعرّت من ثيابها القديمة، واكتست ثياباً غير الذي أعرفها به، كلما مررت على بيت فيه لاحت لي ذكرى تنسمتُ عبيرها، وأحداثٌ كنت أحياها، صرت أحيا عليها، وأصواتٌ تلاشت وتبددت إلا من ذاكرتي وخاطري فهي لا تمل الطرق عليه، وأناسٌ رحلوا عن العين، وظلوا أحياء في القلب والعقل، وأناسٌ آخرون غيرهم، جاءوا واستوطنوا مطارحهم، غرباء عن العين والقلب.. «أمّا الخيامُ فإنها كخيامهم.. وأرى نساء الحي غير نسائها»، بل لم تعد الخيام كخيامهم ولم يعد أهل الحي كأهله.
تذكرت بيتنا القديم وتذكرت مساءاته، التي كان يغمرها الود والدفء، تجمعات الأهل، وتذكرت الراحلين من الأهل والرفاق والجيران ممن شاركونا الحياة فيه، وعنده قلت: آه وألف آه ترددت داخلي، فلكم شاركنا ابتساماتنا وضحكاتنا، وآمالنا وآلامنا، وهمومنا وصمتنا، تغيرت ملامحه بمرور الأيام كما تغيرت ملامحنا، أصابته الكهولة، شاخ وكثرت تجاعيد وجهه، أضنته الغربة والوحشة، خارت قواه، سلبت منه الأيامُ بسمته، صار الزمان غير زمانه، فكان أن طوى صفحته ورحل، تهدّم البيت، وتبددت ملامحه، ولم تتبدد من الذاكرة أيامه وذكرياته، بقيت حيّة، أحيا بها وعليها، يعيش الإنسان حياته في موطن أو منزل ولا يدرك أنه تعيش فيه هو الآخر، فما زالت تطاردني الأصوات، والمشاهد، والضحكات، والأحزان، والذكريات فتبكيني. وما أصدق الصمة بن عبد الله بن الطفيل القشيري، حين قال:
وليست عشياتُ الحِمى برواجعٍ إليك
ولكن خلِّي عينيك تدمعْ
كأنّا خُلقنا للنوى وكأنما
حرامٌ على الأيامِ أن نتجمعْ
لم يعد وجه قريتي أخضر كما كان، صار وجه قريتي غير ما ألفت، وغير ما عرفت، صار غريباً عني، وربما صرت أنا الغريب عنه، وربما نحن الاثنان، صرنا غرباء عن بعضنا البعض، تغيرنا، فلم تعد هي كما كانت ولم أعد أنا كما كنت، ننظر إلى الكون بأعيننا ولا ندرك أنه ربما ينظر إلينا هو الآخر. تغيرت قريتي، كما تغيرتُ أنا، ولكن بقيت صورتها القديمة داخلي دون أن تتغير، تماماً كما بقي كل شيء داخلي دون أن يتغير بينما تغيرت ملامح وجهي، ولون شعري، ومعارفي وخبراتي، وكما تغيرت براءاتي يوم أن غادرت قريتي وأغوتني المدينة، حينما كسا وجهي الأولَ وجهٌ جديد؛ ولهذا كلما نظرت في المرآة وجدتني غيري، وكلما عدت إلى قريتي وجدتها غيرها ووجدتني هي إنساناً غير الذي تعرفه.
ملامحُ وجهي الأولْ
على مرآتك تبدو
كطيفِ ضبابْ
بقـايـاهُ
معلقةٌ على الأشجارِ والأبوابْ
مبعثرةٌ على الطرقاتْ
ينادي بعضُها بعضا
أناديها... أُلملمُها
فتجهلُني..!
تقول بأنَّني غيرى!
** **
- د. محمد أبو الفتوح غنيم