ياسر صالح البهيجان
إن أيّ خطاب طال نصّه أو قصُر يُبنى من قائله بواسطة «ترميز» لغوي وإيحاءات متعددة بعضها طافح فوق الأسطر والبعض الآخر غائر بين الأحرف، لتقع مهمة فك الشفرة الكوديّة للنصّ ملقاة على عاتق المتلقي سعيًا لبلوغ المعنى المقصود في أبهى تجلياته، لتتشكل الفكرة في ذهن المتلقي بذات الكيفيّة التي تشكلت بها في ذهن المُرسل.
تبدو الفكرة في الفقرة الأولى رومانسيّة وحالمة في ظلّ انحراف الدلالات عن سياقها الأصلي -إذا استثنينا تعمّد المتلقي إساءة فهم المُرسل-، إذ إن فك شفرة الترميز النصّي لن يُحدث سوى حالة تشظي في المعنى وتفتيت للفكرة الأصيلة على فرضيّة أن الكاتب عبّر بدقة عن الفكرة الجائلة في عقله -وهو أمر عسير المنال عادة-، لذا فإن الالتقاء بين المعنى المُراد إيصاله والمعنى المفهوم من المتلقي هو التقاء ضمني يُقصد به مقاربة الفهم الصحيح وليس مطابقته.
ولكن ماذا لو أن النصّ قائمٌ أساسًا على مفهوم الاختزال كما في «تويتر»، إذا ما علمنا بأن الاختزال يُعد تعمدًا في إحداث فجوات في النص وإقصاء لكلمات كانت قادرة على إحداث انكشاف أكثر دقة في الفكرة المتحولة من مادتها الخام إلى مادتها المقروءة، لا شك في أن عمليّة التلقي ستتحوّل إلى حالة تأرجح فوق حبل رفيع أسفله قعر لا تُرى نهايته.
تشكّل المعنى في ذهنيّة المتلقي أمام نصّ مختزل تماثل السير في طريق وعر وسط الظلام، قلة من سينجون من تيه الظلمات ودهاليز الكلمات التي لم تُكتب فضلاً عن المكتوبة التي تحيل دومًا إلى ما هو مستتر يأبى الانكشاف لذا تتعدد الأفهام، وتعددها ليس عائدًا لاختلاف مرجعيّات المتلقين الثقافية والفكرية، وإنما لطبيعة اللغة المراوغة المُجيدة لتضليل العقل واللعب في نطاق نقاطه العمياء.
الاعتقاد بأن بمقدور الدال أن يحيلنا إلى مدلول واحد هو اعتقاد عبثي؛ لأن الدوال تكتسب معانيها في رحلة مكوكيّة عبر الزمن حتى تنسى هي ذاتها معناها، مثل رجل طاعن في السنّ أصابه الخرف حتى نسي اسمه، وعندها سيخمّن كل من رآه ولم يعرفه اسمًا ما ليلصقه به.
الترميز في حالة الاختزال يشبه لوحة لمشهد طبيعي تريد أن تقول لمن يتسمّر أمامها أنا الطبيعة بذاتها ولستُ لوحة تحاول تقليد الطبيعة. وعندها يكون المتلقي في حالة فكّ شفرة الترميز، ويجد ذاته أمام مفترق طرق، إمّا أن يصدّق بأنها هي الطبيعة أو يتعايش مع كونها لوحة خياليّة ليس لها من غاية سوى الإيهام.