د. عبدالحق عزوزي
فرضت كندا منذ أيام رسوماً على عدة منتجات أمريكية بينها الفولاذ والألمنيوم والخمور وعصير البرتقال والسفن الشراعية والمحركات وأجهزة جز العشب، وذلك بعد فرض إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب رسوماً على الفولاذ والألمنيوم الكنديين. وقامت كندا بفرض رسوم على منتجات أمريكية في إجراءات تجارية انتقامية ضد الولايات المتحدة رداً على فرض واشنطن رسوماً جمركية على واردات الفولاذ والألمنيوم الكنديين، وتصل قيمة الرسوم الكندية إلى 16.6 مليار دولار كندي (12.6 مليار دولار أمريكي).
أوتاوا لم يكن لديها خيارات أخرى سوى الإعلان عن إجراءات بالمثل رداً على الرسوم الجمركية التي تفرضها الولايات المتحدة على الفولاذ والألمنيوم منذ الأول من حزيران - يونيو 2018؛ أذكر هذا الخبر لأبين أنه لم يكن أحد يتكهن أن يدخل البلدان في هاته الحرب الجمركية بسبب عوامل الجيرة والقواسم المشتركة الأخرى؛ وهذا ما يجعلنا نؤكد مرة أخرى أن البيئة الدولية المعاصرة أضحت أكثر ضبابية وأكثر تعقيداً وأكثر غموضاً من أي وقت مضى؛ «فوهن القوة» هو الطابع الذي يمكن أن نصف به هاته المرحلة الحاسمة من تاريخ البشرية، فالقوة بمفهومها التقليدي الكلاسيكي فقدت أكثر من معنى مع ازدياد الفاعلين في البيئة الدولية المعقدة.. وكثيرة هي الأسئلة التي نطرحها مع زملائنا المختصين في سوسيولوجيا العلاقات الدولية: فأما السؤال الأول فيرتبط بقدراتنا الخاصة على قراءة العلاقات الدولية التي أصبحت جد معقدة. وأما السؤال الثاني فيخص التمييز الذي أمسى أكثر فأكثر غموضاً بين ما قد يرتبط بالمجال العقلاني والمجال اللا عقلاني. والإجابة عن السؤالين يحيلان طبعاً إلى دور الاستراتيجية ودور الاستراتيجيين في المجال البيئي المحلي والجهوي والدولي المعقد.
وكلمة الاستراتيجية في معناها العام كما كتبنا ذلك مراراً توحي إلى صياغة السياسة تماشياً مع مجموع القوى المتوفرة والرهانات والإمكانات، وليس حصراً في المجالات العسكرية أو الدفاع وإنما أيضاً في المجالات الاقتصادية والاستراتيجية والتجارية والصناعية والمالية، إلخ. فكبار المنظرين الاستراتيجيين ككلازفيتز عرفوا الاستراتيجية على أنها (فن استخدام المعارك كوسيلة للوصول إلى هدف الحرب) وعرفها ليدل هارت على أنها (فن توزيع واستخدام كل أنواع الوسائط والبدائل العسكرية للوصول إلى أهداف السياسة) بينما عرفها مولتكه على أنها (الإجراءات والتدابير العملية للوسائل الموضوع تحت إمرة القائد ليحقق الأهداف المطلوبة) والاستراتيجية من خلال هاته التعاريف توحي على أنها فن وعلم وهما عاملان لمعادلة توازنية واحدة جعلها تنمو وتتسع لتشمل المجالات السياسية الاقتصادية والعسكرية والاجتماعية.
الاستراتيجية متعلقة ولصيقة بعدم اليقين والمستقبل؛ والاستراتيجي يكون له نسق فكري متقد وعلم ودراية كافية تجعله يستنبط أهم مقومات المرحلة اللا يقينية والمستقبل شبه المجهول ليصل إلى الأهداف المرجوة ويحقق الغايات المطلوبة؛ فالاستراتيجية تختلف عن تنفيذ برنامج أو ما هو محدد سلفا.
ثم إن عمل الاستراتيجي يكون مختلفاً عن المخطط؛ ففي مجال التدخل العسكري يكون دور المخطط يتمحور حول كيفية استعمال الأسلحة في المعركة للوصول إلى المردود الأقصى كما يرتئيه الاستراتيجيون، أي أن مجال تدخله يبقى مرتبطاً بالإجراءات والتدابير المختلفة التي على القيادة الميدانية اتخاذها في مكان العمليات العسكرية؛ هذا هو دوره؛ أما عمل الاستراتيجي فهو أهم من ذلك. فالحل العسكري عند الاستراتيجي مثلاً ليس هو الغاية الوحيدة لتحقيق الأهداف العليا للوطن بل هناك وسائل أخرى اقتصادية واجتماعية وسياسية ودبلوماسية ينهجها الاستراتيجيون للوصول إلى الأهداف المبتغاة... فالتدخل السعودي الخليجي في اليمن كان نتيجة قرار استراتيجي تبناه الاستراتيجيون لتفاقم الأوضاع الأمنية في اليمن وتعريض المصالح الاستراتيجية في المنطقة للخطر، والانقلاب على الشرعية العقلانية وتداعيات ترك البلد في قبضة اللا عقلانيين وما يمكن أن يورثوه من خراب وتدمير على المنطقة بأسرها... فالاستراتيجية إذن هي متعلقة ولصيقة بعدم اليقين والمستقبل، لأنها تُعنى به، وتحاول تجنب المشكلات المستقبلية الممكنة أو ردعها أو حلها، وهذا هو عمل الاستراتيجي وشغله الشاغل وهذا هو الجواب على تحديات البيئة الأمنية الدولية المعقدة؛ فردود الفعل الصينية والكندية والأوروبية على الإجراءات الأمريكية الجمركية هي إجراءات سياسية مفهومة ولكنها ليست باستراتيجية، لأنها لم يتنبأ بها أحد، ولو أخذت بعين الجد عندما كان يشير إليها الرئيس ترامب في حملته الانتخابية لوضعوا استراتيجيات ردعية جماعية تمكنهم من التأثير أو وقف أية سياسة مناوئة للقواعد التجارية الدولية الجاري بها العمل.