أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: بينت ببيان جلي في الأسبوع الماضي أن الأنواع الثلاثة في سورة فاطر من أهل الجنة بدءاً؛ ولقد بينت النصوص المتظاهرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن الظالم نفسه في سورة فاطر هو الناجي؛ فترجح وتعين أحد الاحتمالين؛ وهو أن المراد من يدخل الجنة بدءاً؛ واسم الإشارة في قوله تعالى: ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ يعود إلى إيراث الكتاب، واصطفاء العباد، والسبق بالخيرات؛ فأما الإيراث والاصطفاء فمخبر عنهما، وأما السبق فنتيجة الاصطفاء.
قال أبو عبدالرحمن: قدم الله ذكر الظالم نفسه؛ ليكون السابق بالخيرات أقرب إلى الإشارة بالفضل الكبير؛ ولو كان ضمير يَدْخُلُونَهَا عائداً إلى السابقين بالخيرات وحسب: لكان الظالم نفسه غير ناجٍ؛ ولكن إعادة ضمير يَدْخُلُونَهَا إلى أقرب مذكور؛ (وهو السابق) ممتنع ها هنا؛ لأن السابق جزء من المخبر عنه؛ ولا يجوز الاجتزاء إلا بدليل، ولأنه يلزم من هذا الاجتزاء أن المقتصد لا يدخل الجنة، ولا قائل بهذا .. كما أن إعادة الضمير إلى السابق وإن كان أقرب مذكور خلاف الظاهر؛ ذلك أن السابق مفرد؛ فيعود إليه الضمير مفرداً وإن أريد به الجنس؛ كما أن تمييز السابق بدخول الجنة يقتضي أن للظالم والمقتصد حكماً لم يرد الخبر عنه، ولا يجوز تعطيل النص من الدلالة.
قال أبو عبدالرحمن: ذكر ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى استدلالات لقوم منعتهم استدلالاتهم من العلم بأن الظالم نفسه ناجٍ؛ وتلك هي نصوص ربطت الظلم بالعذاب كقوله تعالى: إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ [سورة الزخرف/ 74-76]؛ وقوله سبحانه وتعالى: فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ [سورة سبأ/ 19]، وقوله تعالى: وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [سورة النحل/ 118].. والظالم نفسه هو الذي خفت موازينه، ورجحت سيئاته؛ والقرآن يدل على خسارته وأنه غير ناجٍ كقوله تعالى: وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُم بِمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يِظْلِمُونَ [سورة الأعراف/ 9]، وقوله تعالى: وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ [سورة القارعة/ 8-9]؛ فكيف إذن يذكر سبحانه وتعالى وعده بجناته وكرامته للظالمي أنفسهم ضمن الخفيفة موازينهم، وكلام الله معصوم من التناقض؟!.
قال أبو عبدالرحمن: أؤلئك ظلموا أنفسهم بالكفر، وهناك من ظلم نفسه بالمعاصي فدخلوا النار.. وأهل سورة فاطر ظلموا أنفسهم بالمعاصي ولم يدخلوا النار؛ لأنهم من أهل المشيئة الذين اقتضت مشيئة الله نجاتهم؛ إذن العاصي ظالم نفسه؛ ولهذا صار تحت المشيئة؛ ومشيئة الله تكون: إما بدخوله الجنة بدءاً، وإما بتعذيبه ما شاء الله غير أنه لا يخلد في النار؛ فلما وردت الآية من سورة الصافات علم بأن مشيئة الله قضت بأن ظالمي أنفسهم يدخلون الجنة بدءاً.. والقول بأن الظالم نفسه من خفت موازينه، ورجحت سيئاته: قول غير محقق؛ بل المؤمن ظالم نفسه بمعصيته وإن كانت له حسنات راجحة، والمؤمن مطلوب منه الإحسان غير معصوم من الذنوب؛ وأما الرجحان، وخفة الموازين، والقبول، والرد: فإلى الله سبحانه وتعالى؛ ولا يكون الظالم نفسه خفيف الميزان إلا إذا كان كافراً، أو قضت مشيئة الله بتعذيبه إلى أجل وهو من الموحدين.. والمذكور في سورة فاطر عن خصوص ظالم نفسه وهو مؤمن عاصٍ اقتضت مشيئة الله أن لا يدخل النار بمعصيته.. على أن وصف المؤمن العاصي إذا عذب بخفة الميزان موضع نظر؛ بسبب أن شهادة أن لا إله إلا الله لا يرجح بها شيء .. والمهم ههنا أن من كانت خاتمته عند الحساب عفو الله عن ظلمه نفسه لن يكون ميزانه خفيفاً؛ إذن الظالم نفسه في الآية الكريمة من يدخل الجنة بدءاً من عصاة المؤمنين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم؛ وتعيين ذلك بأمه محمد صلى الله عليه وسلم، وبمن يدخل الجنة بدءاً: سلف تقريره وتوجيهه في الكلام عن مجمل الاختلاف في تقسيم الآية الكريمة؛ وأما البراهين على ذلك فتأتي في السبت القادم إن شاء الله تعالى, والله المستعان.