د. محمد بن إبراهيم الملحم
إذا كانت مؤسسات دعم القرار التعليمي تمثل أساسا للعمل البحثي لفائدة صانع القرار في الدول المتقدمة، فإن هناك خطا موازيًا بنفس الجودة هو البحث العلمي الأكاديمي والتأليف التربوي للأفراد الخبراء فهناك كتب تربوية متميزة قدمت نظريات جديدة (أو نماذج) وهناك أوراق بحثية وأبحاث شاملة قيمة تعتبر مرجعًا مهمًا للدول لتفيد منها، لا تلك التي نشأت فيها الدراسة فحسب، بل حتى الدول الأخرى التي يمكن أن تعيد توظيف النموذج، وأبطال هذه الدراسات ليست مؤسسات وإنما باحثون متميزون وضعوا أيديهم على مواطن الألم، ودعوني أستعرض معكم هنا أمثلة يسيرة.
منذ أن أشار البنك الدولي في أحد تقاريره عام 1993 بأن نجاح دول شرق آسيا منذ السبعينات حتى التسعينات مرده الاستثمار في رأس المال البشري وخاصة من خلال استهداف الاستثمار في التعليم فإن كثيراً من الحكومات بعدها أصبحت تنظر إلى التعليم وتهتم به من هذه الزاوية الطموحة اقتصادياً، المشكلة الكبيرة هي في مشكلات إصلاح التعليم العسيرة ولذلك فإن كثيراً من المحاولات لا يكتب لها النجاح لأسباب متنوعة ولكن أبرزها المؤثرات السياسية والتنظيمية، بل حتى في الولايات المتحدة الأمريكية هناك بعض من يرون أن الإصلاحات التعليمية في المدارس الحكومية ليست سوى شكل مظهري ولا ينتمي إلى التغيير الحقيقي المنشود وعلى رأس هؤلاء كل من بيرلينر وبيدل Berliner And Biddle في كتابهما المنشورعام 1995 «الأزمة المفتعلة للاحتيال والهجوم على المدارس الأمريكية» وهما أستاذا كرسي في جامعتين مرموقتين، وقد جنحا إلى اتهام بأن هناك من هو وراء إفساد التعليم في مدارس الحكومة بأمريكا وعللا ذلك بغايات اقتصادية وسياسية.
لدينا ومن التسعينات وما قبلها لم تكن مطالبة التعليم برفع مستوى المجتمع (أو اتهامه بالسبب في انخفاضه) لغة عالية الصوت، ولكنها كانت كذلك في الولايات المتحدة الأمريكية كما كتب عنها هذين الكاتبين آنذاك، وها هي نفس الظاهرة تبدو لدينا بوضوح في السنوات الأخيرة، إذ كل ما هو متخلف يعزى سببه إلى ضعف التعليم، ويبدو أن هذه ظاهرة أو سلوك مطرد في الأفق الثقافي، وعموما يمثل فساد التعليم (سواء كان مقصودًا أو غير مقصود) عاملا مهما من عوامل التخلف الاقتصادي والحضاري بدون شك ولكن لا يجب أن يكون هو السبب الرئيس.
وقد وضح أحد الكتاب (جافير كوررالز) Javier Corrales أن هناك ثلاثة عوائق غالبًا ما تجابه الإصلاح التعليمي: أولها أن الإصلاح يتطلب ضخ المال وهذه المصروفات تتسم بأنها تكاليف «مركزة» يقابلها منافع «متشتتة» وهما مفهومان متناقضان مما لا يشجع من يقررون الدفع أن يضحوا بالميزانيات، وثانيها أن الإصلاح التعليمي يقابل الإصلاح الاقتصادي باعتبارهما متلازمين (أي أن التطور التعليمي سبب للنمو الاقتصادي) أو باعتبارهما متنافسين (أي أن ميزانيات تطوير التعليم الضخمة تأكل غلة الاقتصاد!) وهذه التنافسية تسبب حيرة لدى متخذي القرار، وثالث العوائق هو ارتباط الإصلاح التعليمي الناجح باللا مركزية في حين أن الحكومات تتردد كثيرا في قبول مخاطر ترك المركزية، بل حتى الحكومات اللا مركزية حلل الكاتب واقعها أنها أحيانا تمارس المركزية للتخلص من مشكلات عالقة أو محرجة لها!
أما مؤرخ الاقتصاد الشهير ريتشارد فيدر Richard Vedder الذي ركز أعماله مؤخراً على اقتصاديات التعليم فقد أشار إلى تردي كفاؤة مخرجات التعليم الأمريكي (العام والعالي) وليوضح ذلك فقد تتبع إحصائيات منذ الخمسينات ليجد أن عدد موظفي المدرسة (معلم ومدير وكاتب الخ) منسوبا إلى طلابها كان 5 إلى 100 ليرتفع ويزداد في الارتفاع حتى يصل في التسعينات إلى 11 موظفًا لكل 100 طالب، ومع هذه الزيادة فقد قارن نتائج الطلاب في الاختبارات القياسية ليجد أنها لم تزدد أو أنها نزلت أحيانا، ويرى أن هذا من أهم مؤشرات عدم إنتاجية التعليم، كما أن له أبحاثا مشابهة في إنتاجية التعليم العالي أيضا.
سؤال لمتخصصي التربية في جامعاتنا (ومراكزنا البحثية!) كم نسبة أبحاثكم وكتبكم التي تناولت مثل هذه الأهداف الموضوعية الوطنية العظيمة!