محمد المهنا أبا الخيل
يقول الكاتب الألماني (ولفجانج شيفلباخ) في كتابه (ثقافة الانهزام) «إن البحث عن تعويض للهزيمة يقود إلى الاعتداء على طرف ثالث أضعف», ومع أن اليابان في 2 سبتمبر 1945م لم توقّع على استسلامها العسكري للقائد الأمريكي (ماك أرثر) وحسب، بل وقعت على الاستسلام الثقافي، وتبعاً لذلك ألغت اليابان رسمياً (1300) حرف رمزي (كانجي) من مناهجها التعليمية، تلك الحروف كانت مخصصة لتمجيد الإمبراطور والإمبراطورية اليابانية والنزعة الاستعمارية لدى الجيش الإمبراطوري، انهزمت اليابان ثقافياً, وخضعت لاستعمار ثقافي واقتصادي وإداري أمريكي دام (7) سنوات حتى العام (1952) بعدها سلّمت إدارة البلاد لمجلس (الدايت)، بعد تعديل الدستور الياباني، حيث أعاد الأمريكيون صياغة السياسة اليابانية لتكون تابعاً لهم وتدخلوا في علاقة الدولة بالمواطنين وجعلوا الإمبراطور شخصية رمزية لا أكثر, وتبعاً لذلك وحاجة اليابانيين للتعويض عن مشاعر الهزيمة، انصرف اليابانيون لتحسين حياتهم الاقتصادية فازدهرت صناعتهم بفضل التمييز الأمريكي لهم واستيراد منتجاتهم الرخيصة، وكان الأمريكيون يرون في نفوذهم في اليابان مرتكز إستراتيجي لمقاومة المد الشيوعي السوفييتي والصيني لا حقاً. فاستفاد اليابانيون من ذلك التمييز على المستوى الاقتصادي، بحيث تربعت اليابان على المرتبة الثانية كقوة اقتصادية عظمى منذ ثمانينات القرن الماضي وحتى بعض سنين خلت قبل أن تأخذ الصين مكانها.
تدخل الشعوب المهزومة عسكرياً في حالة نفسية جماعية تتمثَّل في تبرير الهزيمة العسكرية وإنكار أثرها، إما بإلقاء اللوم على القيادات العسكرية واتهامها بالخذلان والخيانة أو بلوم الظروف الطبيعية وتكالب الآخرين، وقد تدوم هذه الحالة من اللت والعجن والذي يتبلور في صورة منتجات ثقافية (مقالات وروايات ومسرحيات وأفلام) بمقدار ما تستطيع القيادات السياسية من إيجار مخرج تعيد به توجيه تلك الطاقة الشعبية إلى هدف يعيد بناء الثقة واحترام الذات الوطنية، وعادة ما يكون في اختراع عدو جديد ضعيف يسهل الانتصار عليه، أو يكون من خلال استدعاء الذاكرة التراثية أو استحضار الأمجاد التالدة وإعادة تلميع الأبطال الأسطوريين وزج المجتمع بأحلام إعادة تلك الأمجاد التراثية, وهذا السلوك السياسي هو الذي طبع السياسة العربية نتيجة انهزاماتها المتتالي ابتداءً من (سايكس بيكو) وحتى غزو العراق وما استتبعه من تسلّط التأثير الإيراني على سياسات بعض الدول العربية.
الانهزام العسكري الياباني فرض على اليابان التخلّي عن (العسكرة) وبالتالي انتفاء القدرة على خلق عدو جديد ضعيف يعيد الثقة بالقدرة العسكرية اليابانية، والانهزام الثقافي فرض على اليابان إهمال موروثها التراثي والذي لا يخلو من نزعة حربية استعمارية, فأصبح خيار المجتمع الياباني محصوراً في النهضة الاقتصادية الصناعية، وخصوصاً مع تيسير الولايات المتحدة الأمريكية الصادرات اليابانية، في حين أن الانهزام العسكري العربي وخصوصاً أمام القوى الاستعمارية الغربية، ومن بعدها إسرائيل، لم يكن انهزام بالقدر الكافي لتغيير جذري في التكوين السياسي العربي، فهو انهزام عراك وليس انهزام حرب، لذا لم تزل الشعوب العربية تعيش ثقافة الحرب والاستعداد للحرب وبناء القدرة العسكرية لتحقيق الانتصار العسكري الحلم، والتراث العربي ليس كالتراث الياباني يسهل إهماله بمجرد قرارات يصدرها مجلس نيابي، فالتراث العربي ضارب في أصوليات الثقافة العالمية فهو تراث يحمل (دين) يمثّل معتقدوه ثلث العالم وهو تراث زاخر بمنتجات أدبية وعلمية وفلسفية، لذا فمن المستحيل هزيمة العرب ثقافياً وجرهم إلى التقولب في ثقافة غربية طارئة.
هذه المقارنة بين الواقع السياسي الياباني حال شعور المجتمع الياباني بهزيمته العسكرية بعد الحرب العالمية الثانية والواقع السياسي العربي والممتد منذ انهيار الدولة العثمانية وحتى اليوم، يوضح أن الطاقة الشعبية والتي تتولّد من الهزيمة والرغبة في الخلاص من ذلك الشعور والتي مكنت اليابان من النمو الاقتصادي الهائل، تشتت لدى العرب في عدة اتجاهات لم يستطع أي منها تحقيق أثر يقنع المجتمع العربي بانتهاء حالة الهزيمة فبقي مرتهناً لها يلت ويعجن ويعيد صياغة نفس الشخصيات السياسية غير القادرة على إيجاد مخرج ينهي حالة الانهزام النفسي العربي.
منذ بداية الضعف في الدولة العثمانية تنامى في جزيرة العرب كيان انبثق من عمق البادية العربية الخالية من مشاعر الهزيمة، البداوة المفطورة بحيوية الرغبة في الحياة والإنجاز والتغيير، هذا الكيان تبلور في صورة دولة هي اليوم أمل العرب في بعث جديد، دولة مجتمعها خال من مشاعر الهزيمة والإحباط، ومفعم بإرث تراثي يمثِّل مخزوناً حضارياً يدعم تكوين ثقة عالية في النفس وهمة تكتس عوائق التقدم، هذا الدولة اليوم وبعد أن صعدت كل العتبات حتى أفضت إلى حاضرها الحالي، تقف على أهم عتبات الحضارة، وهي عتبة قيادة العرب نحو أفق جديد من التقدم الحضاري والاقتصادي والريادي في تكوين دور جديد يجسر تلك الهوة السحيقة التي تفصل حضارة العرب الإسلامية التراثية وحضارة العرب الموعودة في رؤية (2030).