عبدالوهاب الفايز
بما أن الحديث أحياناً تبعثه الهموم، موضوعنا اليوم يثيره الأسى. وهنا نقصد موضوع الترفيه. لماذا؟ لأننا نعتقد أن الترفيه لا يتحقق إلاّ بالإنفاق الكبير. بينما الترفيه الذي يحتاجه الإنسان ليجدد نشاطه ويخفف من همومه قد يتحقق باليسير من الوقت والجهد والمال.
استسلام حياتنا إلى الشكليات أثر على مفهوم الترفيه حيث تم ربطه بالأماكن والأشياء والرموز الاستهلاكية والمكانية، وبالتالي تحول من نشاط (إنتاجي) ينعكس على الصحة العامة، إلى نشاط (استهلاكي) سلبي على الصحة وينمي مرض الإفراط في الإنفاق على الكماليات.
الآن في الصيف.. الوقت المناسب للمقارنات واستدعاء الأماني والتطلعات، وطرح الأفكار. إذا سألت الذين يستعدون للرحيل عن برنامجهم في رحلة الصيف يأتي في قائمة أولوياتهم (المشي)، والمدن التي توفر الفرصة المريحة الآمنة للمشي تحظى بعبارات الإعجاب والثناء، وحتى الاستقطاب السياحي. طبعاً مع المشروع اليومي للمشي يأتي المرور على قهوة أو جلسة في حديقة وغيرهما مما توفره المدينة للنشاط الإنساني والاجتماعي.
شيء ممتع أن تُقبل الناس على المشي، وهو قمة النشاط البدني الذي ينعكس إيجابياً على مؤشرات الصحة العامة، النفسية والبدنية، والمشي يحض عليه كل المهتمين بالصحة العامة، وهذا الذي يجعلنا نرى أهمية وحيوية (أنسنة المدن) لتكون حاضنة ومحفزة للأنشطة الإنسانية غير المكلفة.
ضرورة النشاط البدني للإنسان المعاصر يؤكد أن الاهتمام بالأرصفة وكل ما يسهل حركة المشي يعد (استثماراً ضرورياً) لا يقل أهمية عن الاستثمار في الصحة والتعليم. وأيضاً هو استثمار في صناعة الترفيه. معظم أنشطة الترفيه في المدن العالمية يتم في الشوارع والساحات العامة والحدائق، وهذه غالباً توفرها المدن حتى تجعل الأنشطة الترفيهية غير مكلفة وفِي متناول جميع الناس.
المدن في تصميمها الحضري تأخذ في الاعتبار أهمية البيئة السكنية لجودة الحياة، فالاهتمام بالجماليات وإزالة التلوث البصري قد يتحقق بأقل التكاليف، وبأقل الإنفاق الحكومي، يتحقق عبر الإبداع في التفكير والاستفادة من تجارب المدن الناجحة، وإيجاد الآليات النظامية المحفزة للأنشطة، والرادعة للإهمال والتخريب، وتطوير الأنظمة والمواصفات للأماكن العامة، وتشجيع مؤسسات المجتمع المدني التي تدمج نشاط السكان بالمدينة.
حياتنا المعاصرة تحتاج الترفيه اليومي، وليس هناك أجمل من تشجيع الناس على المشي، إنه مفتاح للسعادة، والترويح عن القلوب وإزالة الهموم عنها أمر مستحب ويأمر به الدين. وبما أن الحياة مسيرة كفاح إيجابي، فالتشجيع على المشي غير المكلف أيضاً يقابله التشجيع على العمل الخيري. إن قمة السعادة موجودة في الإنتاج والإضافة للحياة، بالذات (إضافة الأشياء الإيجابية) إلى حياة الناس، وكبار الأثرياء في مذكراتهم أو أحاديثهم لم يصلوا إلى الإحساس بالسعادة إلا عبر مسار الأعمال الخيرية والإنسانية.. لم يجدوها في المنتجعات واليخوت وحياة خمسة نجوم. إنه الترفيه الإيجابي غير المكلف.
أمامنا تحديات لترتيب أولويات الحياة في المدن. والتحدي الأهم هو تعديل مفهوم الترفيه لدى الجيل الجديد الذي يعتقد أن الترفيه لا يتحقق إلا بالإنفاق المالي، فهذا أحد مسببات ارتفاع النفقات الجارية بالنسبة للصغار والشباب، فمن يمضي يومه الآن من هؤلاء بدون المرور على استراحة ومطعم وقهوة وملحقاتها! إنه الإشباع السريع للرغبات.. شعار (جيل الميلنيم)، وهذا مرهق للعائلات ويستهلك دخلهم المحدود، ومضر للصغار لأنه ينشئ فيهم سلوك الإدمان على الاستهلاك.
المدينة هي التي تقدم أغلب أنشطة الترفيه المجاني، عبر الأرصفة والحدائق والساحات، ومراكز الترفيه الرياضية والاجتماعية. الإمكانات متوافرة في مدننا، وبيدنا الإرادة والرغبة لصناعة التغيير..
فقط نحتاج الإبداع في القيادة والإدارة.