د.فوزية أبو خالد
هناك أكثر من موضوع يشغلني ويمكن الكتابة عنه اليوم بما لاتكفيه المساحة المفترضة لهذا المقال، ومع ذلك لأن الكتابة ليست دائما تحليلا معمقا ولا سردا مفصلا ولا كلمات تكفي الحالة التي يراد الكتابة عنها أو توفيها حقها من جميع جوانبها أو حتى بعضها، بل قد تحتمل الكتابة وخاصة المقالية منها أن تكون فكرة أو زفرة أو مهرة مارقة بين بروق و عتمة أو يجتمع فيها ألم وأمل, كما يحتمل أن تكون الكتابة كلمة عالقة في الحلق أو سؤالاً يبحث عن ضوء أو تعبير عن موقف، فإنني سأتناول هنا موضوعين ليست بالضرورة هي تعبير عن موقف بقدر ماهي تعبير عن وقفة تأمل أو لعلها تعبير عن الإثنين معا.
طفح الكيل داخل إيران كما في خارجها
الوقفة الأولى تتمثل في تحولات الحالة الإيرانية الداخلية المتفاقمة من العزلة للعلن.
قد يظن غير المتابع أن حالة النقمة الإيرانية التي تعكسها احتجاجات الداخل الإيراني واندلاع المظاهرات في عاصمة البلاد وأطرافها، وكذلك تحركات المعارضة الإيرانية في الخارج مثل مؤتمرها الأخير مطلع هذا الشهر بباريس قد جاءت فقط نتيجة الضغوطات السياسية والاقتصادية التي تقودها الرئاسة الأمريكية للصالح الأمريكي ضد سياسة إيران الإرهابية في المنطقة، إلا أن المتابع للحالة الإيرانية وتفاقماتها الداخلية وتململ الشعب الإيراني الممض والطويل من نظامها الشمولي يعلم أن ذلك غير دقيق، إن لم يكن غير صحيح.
وعلى سبيل المثال لأدلة يمكن اعتبارها قياسية أو معيارية لتلك الحالة من الضنك الإيراني لن يكون هناك أدق من موقف المثقف الإيراني للكشف عن الواقع المتردي لمعاش الشعب الإيراني على المستوى الاقتصادي وعلى المستوى السياسي معا، باعتبار أن مواقف المثقفين بالمجتمعات المعاصرة بل وعبر التاريخ السياسي والاجتماعي للتجمع البشري تعبر عن الضمير. ونستطيع أن نجد في بيان رابطة المثقفين الإيرانين الذي صدر مؤخراً في أعقاب احتجاج الحكومة على رفض ثلة من كتاب وأدباء وفناني إيران تلبية دعوة الإفطار الرمضاني يوم 18-6-2018م التي وجهها لهم الرئيس حسن روحاني رغم أن تلك الثلة كانت من ناخبيه للأعوام 2013 و2017م مايرمز لموقف المثقف الإيراني من سلطة بلاده في سياستها المتذبذبة والقمعية تجاه الثقافة بل وتجاه المجتمع.
فالمثقف الإيراني العضوي يستطيع أن يرى أن تعامل زمرة النظام الحاكم في بلاده المتغول لايعكس فقط موقفها من المثقفين والثقافة، بل يعكس موقفها من الشعب الإيراني الذي يتسم منذ قيام دولة إيران الطائفية بضيق الأفق السياسي على المستوى الداخلي وبشهوة التوسع العسكري على المستوى الخارجي على حساب الداخل وبأمواله ودمائه.
ومن بعض أسماء أولئك المثقفين الشرفاء- المخرج الإيراني الشهير محسن مخملباف والمسرحي برويز برستوئي, الصحفي حسين علي زاده, المترجم و الناقد خشايار ديهيمي، الممثلة شيلا خداداد والكاتبة مهناز أفشار التي كتبت تغريدة في الرد على دعوة الإفطار الرمضاني الموجهة لها تقول: « أشكركم على الدعوة التي لن أستطيع تلبيتها لأن السيدة (آتنا دائمي ) هي الأولى بالدعوة لإخراجها من سجن قرتشك بمنطقة ورامين فتلك المرأة التي أتمت عامها الثلاثين بالسجن جديرة بالحرية ,وليس بالسجن, لأنها وقفت مع حقوق الطفل والمرأة وطالبت بها «.
ومما جاء في البيان مدعوما ببعض المواقف الشفيفة على وسائل التواصل التي تعبر عن ضمير المثقف الإيراني في موقفه الرافض من سياسات بلاده المتسلطة، وإن كان يؤخذ على ذلك البيان عدم ذكره ولو تنويها لولوغ النظام الإيراني في دم شعوب الجوار, النقاط التالية:
تحرير العمل الثقافي في إيران من سلطة السياسي فليس للسياسي أن يطلب من الثقافة أن تكون تعبيرا عن صوت السلطة بأحاديته وطائفيته، وتحرير العمل الثقافي أيضا من سلطة البيروقراطية والمتطفلين والمطبلين للسلطة فليس للإداري أن يخضع الثقافة لهرم السلطة البيروقراطية أو لشروطها القسرية المعادية للإبداع وللحرية التي هي روح الإبداع.
إعادة الاعتبار الدستوري لكافة القوى الاجتماعية: الشباب المرأة والمثقفين في التعبير عن مطالبهم في مجال الحريات العامة وحقوق الإنسان ووقف حملات التوقيف التعسفي عن العمل الثقافي والمنع من السفر والاتهامات في الشرف الوطني والسجن. مع المطالبة بالإفراج غير المشروط عن المعتقلين السياسين ومعتقلي الرأي القدامى والجدد ممن اعتقلوا في مظاهرات ديسمبر ويناير والمظاهرات الأخيرة بمدينة المحمرة جنوب غرب إيران.
وقف الهدر الاقتصادي وتحسين الوضع المعيشي للفئات الرقيقة والمستضعفة من الشعب الإيراني.
(المعهد الدولي للدراسات الإيرانية).
إلا أن السيدة مريم رجوي الرئيسة المنتخبة لمؤتمر المعارضة الإيرانية بباريس هذا الشهر قد وضعت النقاط تحت بل وفوق الجروح الإيرانية المقنعة والسافرة حين قالت آن لهذا النظام الثوري الطائفي الأحادي أن يرحل.
«إن لهيب الانتفاضة لا ينطفئ، بل يبقى مشتعلاً ويتوسّع نطاقها باستمرار ويتعمّق، واليوم أصبحت طهران العاصمة، أكبر مدينة عاصية في العالم، فهدير أمواج المدن وهتافات الشباب المنتفضين تعكس نبضات قلب الشعب الإيراني في شوقه إلى الحرية، ومن أجل إيران حرّة»
الرحمة لأطفال مناطق الصراع السياسي والعسكري
الوقفة الثانية، تتمثل في إشارة عجلى خجلة لتقرير الأمم المتحدة الصادر هذا الشهر عن حالة الطفولة في الحروب عبر العالم وهي حالة مروعة لايستطيع أي صاحب قلم أن يقرأ عنها ويغلق التقرير ليكتب عن شيء آخر على الإطلاق. فالتقرير يتخطى الحديث الموجع المروع عن البؤس المتوقع الذي يقع على الأطفال نتيجة الحرب ليقدم صورا فظيعة مخجلة من الاعتداءات المتعمدة على أطفال المناطق المنكوبة بتهلكة الحرب بزيادة مرعبة كل عام عن العام السابق. فزيادة العام 2017 وحده في الاعتداء على الطفولة بلغت واحدا وعشرين الف حالة عن العام 2016. وقد اشتمل ذلك على تجنيد الأطفال بما يعني قسرهم القصدي البالغ القسوة في التدرب على حمل السلاح وعلى القتل, كما اشتملت على استخدامهم المتعمد دروعا بشرية ومكانس لتنظيف أراضي الاقتتال من الألغام بانفجار الألغام في أجسادهم الغضة.
هذا عدا عن الاعتداءات الجنسية على الأطفال بناتا وأولاداً وعمليات تشوية الوجه والأجساد. ومع أن التقرير بطبيعة الحال مع الأسف لم يشر لحالات انتهاك الطفولة الذي قامت به الرئاسة الأمريكية نتيجة مواقف التعصب العرقي والسياسي بفصل ألفي طفل عن ذويهم وتوزيعهم على دور إيواء كورقة ضغط وحشية للحد من تدفق المهاجرين على أمريكا, فإن من الواضح أن نصيب العالم العربي من الاعتداء البواح المتعمد على الطفولة كان نصيبا تقشعر له الأبدان في سوريا وليبيا واليمن لجهة الحوثي وجنوب السودان وبالطبع التنكيل الإسرائيلي اليومي لأطفال فلسطين.
فهل يمكن إلا في الخيال أن تصد ريشة الكتابة أظلاف وحش الحروب عن الاعتداء العمد على أجساد وأرواح الأطفال، قد لايكون ذلك ممكنا، ولكن ليس لمن ليس لهم من أدوات المقاومة إلا الحبر أن يتخلوا عن نعمة الخيال.