د. حسن بن فهد الهويمل
الكلمة: مقولةً، أو مكتوبةً هي العاملُ الرئيس في تشكيل [النسق الثقافي] لأي أمة، والنسق هو المحرك الرئيس لتوجهاتها.
ولأهميتها كانت المعجزة الخالدة لرسول الرحمة، والهداية.
وكانت قِرَاءَتُها أولَّ ما نُدِبَ إليه في التَّشريع:- {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ}. وكان التعليم بـ[القلم] من خلال ما يكتب: {عَلَّمَ بِالْقَلَمِ}.
ووصفت الكلمة الطيبة بالشجرة المتأصلة السامقة. والثبات، والسموق رمز القوة، والشرف.
فيما وصفت الكلمة الخبيثة بالشجرة الخبيثة المجتثة، وغير المستقرة. والخبث، والاضطراب رمز الفساد، والضياع. ولقد قيل من قبل:- [الناس على دين ملوكهم] أما اليوم فـ[الناس على دين نخبهم].
وحين كان السلطان للشعر مَيَّز الذكر الحكيم بين شعراء الهداية، وشعراء الغواية {وَالشُّعَرَاء يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ}، فكان الهيام، والكذب، وجاء الاستثناء {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا}.
ولأهمية القول تعاقب الحث على ضبطه، وحفظ اللسان. {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ}، {وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً}، {لاَّ يُحِبُّ اللّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوَءِ}، {وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا}.
وفي الحديث:- [كُفَّ عليك هذا] يعني اللسان. كما حذر من [حصائد الألسن]. فالكلمة ذات أهمية.
ولا سيما حين تتحلى بـ[الأدبية]، ويتوسل بتجميلها المبدع للإمتاع، والإقناع، والاستمالة، وتشكيل النسق الثقافي المؤثر على الرؤى، والمسارات، والتصورات.
كان [الشعر]، وكان [السجع] للإطراب، والاستمالة، والتأثير. ولم يُسَمَّ شيءٌ من ذلك بالأدب.
ومن ثم تأخر ظهور مصطلح [الأدب] عن ظهور مصطلحات الشعر، والخطابة، والسجع، بوصفهما مادة الأدب.
لقد ظهر مصطلح [الأدب] في التراث متأخراً عن عصر [صدر الإسلام]، ليكون سمة للكلمة الإبداعية، البلاغية. ثم تشكل من بعده مصطلح [الأدبية]، ليشتمل على سمات الإبداع السردي الموازي للشعر.
فالشعر له ضوابطه، ومعاييره الصارمة، وشكله المتعارف عليه. فيما لم يكن للسرد ضوابط، وإنما كانت له سمات، وخصائص متعارف عليها، ومعروف بها.
ومصطلحا «الأدب» و»الأدبية» ظهرا لتمييز الإبداع اللغوي عن الكلام العلمي:- الفقهي، والتاريخي، وسائر العلوم.
وإذ يكون [الشّعر]، و[السرد الأدبي] صنوان يحملان سمة [الأدب]، و[الأدبية] فإن شروطهما:- اللغوية، والفنية، والمقاصدية هي المحققة لوجودهما السوي، وبدون استكمال تلك الشروط لا يكون القول أدباً، ولا تصدق عليه سمة الأدبية.
هذه الضوابط لا تتعارض مع التجديد، ولا مع التأثر، والتأثير. فالذوائق تختلف ببطء، ومن حق المبدع أن يكون ابن ساعته. لا ابن تاريخه. الموروث بنية تحتية، وأساس تقوم عليه الشواهق.
السرد الروائي، والقصصي يتخذان شطراً من الضوابط، والسمات [الغربية]. مع أن القصص موجود في التراث، كما أنَّ في القرآن {أحْسَنَ القَصَصِ}.
عِلما أن [الرواية العربية] بشكلها الحديث تحذو حذو [الرواية الغربية]، وما من أحد من النقاد اعترض على شيء من ذلك. بل أمعن النقاد في استجلاء السمات، والخصائص واستجلابها.
وإذا كان [الشعر] قد احتفظ بموسيقاه المتمثلة بعروضه، وقوافيه، وزحافاته، وعلله، وظل عربياً خالص العروبة، حتى في تحولاته على يد المجددين من الشعراء، والمنظرين من النقاد، فإن السرديات اتخذت مناحي أخرى.
ولم يند عن سنن الشعر إلا ما يسمى بـ[قصيدة النثر] بكل ما تحمله من أوضار النثرية، والغموض. وهي إذ تخرج من محيط [الشعر] فإنها تظل في محيط [النثر الفني]. وهذا مهيع واسع، لو خضناه لبعدت علينا الشقة.
تجديد الشعر راوح بين المعقول، و[اللا معقول]، ولكنه ظل يحمل شيئاً من سماته. وما لم يتنبه له كثير من النقاد أن [الفن] بكل تجلياته، لا يكون إلا في ظل [الموهبة]. وما طريقه المواهب، لا يكون بالتعلم، ولا بالقدرات المعرفية.
فأنا أنظم الشعر اقتداراً، ولكنني لست موهوباً، ولهذا فلست بشاعر. ومن ثم يجب أن نفرق بين [الشاعر]، و[الناظم]. وما يجري على الشعر، يجري على ما سواه من فنون القول، وبالذات [الرواية].
و[الموهبة] متفاوتة، تفاوت الذكاء، والحفظ. وتفاوتها من حيث هي وجوداً مجرداً، وهي كذلك متفاوتة من حيث هي متلبسة بالصقل، والتنمية، والتزود من المعارف، والتجارب.
فمبدع في الثمانين من عمره، مر بالتجارب، وتمكن من الرصد الدقيق لتحولات الشعر بكل أبعاده:- الفنية، والدلالية، واللغوية لا بد أن يكون لشعره تميزٌ، وأهلية. وقد عرفنا [شعر الصبا] لعمالقة الشعر.
وقُلْ مثل ذلك عن سائر السرديين، الذين استوعبوا التراث، والمعاصرة، ووعوا شرط التجديد، والحداثة، وما بعد الحداثة.
للإبداع بكل تنوعاته، وتجلياته عوالمه، التي لا تقل أهمية عن سائر العوالم المعرفية، والثقافية.
فإذا كان لـ[الفقهاء]، و[المفكرين]، و[الفلاسفة]، و[المتكلمين]، و[المؤرخين] عوالمهم، وإمكانياتهم. فإن لـ[الفن] عوالمه التي لا يستهان بها. ولما لم يكن [الفن] وقفا على الكلمة الأديبة فإن لكل نوع منه عوالمه.
فالرسم بالكلمات، كالرسم بالريشة، والحفر، والنحت بـ[الإزميل].
وإبداع الأنامل لا يقل عن إبداع اللسان. ولكل إبداع ضوابطه، ومحققاته. وأي تنكر، أو استخفاف بشيء من ذلك، يعد تحولاً إلى الأردى.
السرد القصصي واكب الحركة الأدبية، وأعطى الأدباء لكل عصر ما يناسب ذوائقه. وإذ يكون [لكل زمان دولة ورجال] فإن لكل زمان أدبه، وأدباؤه، وفَنُّه.
وإذ احتفى الأب القديم بأصحاب المعلقات، والنقائض، واللزوميات، وشعر المدح، والفخر، والفروسية. فإن المحافظين يحتفون بالإحيائيين، والمجددين يحفلون بالأبُولِيِّين، والديوانيين، والمهجريين، وعمالقة الشعر الحديث. كالرصافي، والزهاوي، وشوقي، وحافظ، وأبي ريشة.
كما أن الأدب الحداثي يتجاوز أولئك كلهم أجمعين. ويحتفي بالنثرية، والغموض، والأسطرة، والتمرد على كافة المواضعات الفنية، واللغوية، والدلالية.
والذوائق هي وحدها التي تقر في المشاهد ما تشاء. وما يجري على عالم الشعر يجري على سائر عوالم السرديات.
المهم أن تكون هناك ضوابط، ومصطلحات جامعة مانعة، وأداء محسوب لاشية في سائر تحولاته، تقمع الأدعياء، وتأطر السفهاء، وتحمي الحِمَى.
فالناقد المكتمل الأهلية، يرفض النمطية، والتناظر، ووقوع الحافر على الحافر. وفي الوقت نفسه يرفض الفوضى، والانفلات، وانعدام الضوابط الفنية، والسمات، والخصائص.
سائر الفنون كفن الشعر صعب، وطويل سلمه. وكم من سَرْدِيٍّ دعي، فاقد للأهلية، طواه النسيان، ونفت المشاهد غثائياته، وذهب جُفَاءً، كما الزبد.
وإذ يكون للفن عوالمه، فإن على النقاد أن يحموا حماه، من عبث العابثين، وسفاهة السفهاء. وسخافة الأدعياء.
يظل الفن كـ[ليلى] العاشقين، كل يدعي وصلا بها. ولكن الفن الرفيع لا يقر لهم بذاكا، ما لم تكتمل عندهم محققاته.
الفن مسؤولية أخلاقية، قبل أن يكون مسؤولية: فنية، ولغوية. وموقف، وليس عبثاً، ولا تلوناً.
الفن ما لم يكن ملتزمًا بسائر القيم: الفنية، واللغوية، والجمالية، والأخلاقية فإنه يشكل عبئاً على الأمة، ومعول هدم لسائر قيمها. ولا سيما إذ دخلت الأمة بمبدعيها مضامير اللزز، وقدمتهم للمشاهد، والميادين، كما تقدم الدول منتخباتها الرياضية.
أمتنا العربية تَقْدُم الإنسانية بالإبداع، لأن معجزتها بيانية:- {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ}.