د. أبو أوس إبراهيم الشمسان
الفصل التاسع: في النبر
بين فيه أن اختلاف اللهجات في نطق الأصوات واضحٌ يدركه السامع ويميزه، بخلاف (النبر) وهو إبراز مقطع من مقاطع اللفظ، فقد يدركه السامع؛ ولكنه لا يستطيع تحديده، فكلمة مدرسة أو معجزة نجد اللهجات العربية تنبر المقطع الأول (مَد.../ مُعْـ ...) ولكن لهجة القاهرة وما شابهها تنبر المقطع الثاني (... رَسَة/ ...جِزَة)، وقد لاحظتُ هذا في لهجة الكويت؛ إذ ينبرون المقطع الثاني.
وبيّن أستاذنا أن اللفظ ذي المقاطع المتعددة تتفاوت درجات نبر تلك المقاطع فيه؛ ولكنه اقتصر في حديثه على النبر الرئيسيّ. وبين اختلاف اللغات بله اللهجات في مواضع النبر واختلاف النبر حسب موقعه من الكلمة ووظيفتها في الجملة.
وفي العربية يختلف النبر حسب أنواع المقاطع وعددها وترتيب ورودها، ففي (كَتَبَ: كَ/تَ/بَ) ينبر المقطع الأول وفي (كتَبنا: كَ/تَبْ/نا) ينبر المقطع الثاني، وفي (كتبناه: كَ/تَبْ/ناه) ينبر المقطع الثالث. ولمواقع النبر قواعد سيذكرها في الفصل القادم والمستعمل يطبقها من غير معرفة بها.
ويبين كيف يتأثر المقطع بالتركيب الصرفي للفظ مثل (وَصَفَتْ) فقد تكون الواو فاء الفعل (وصف+تْ) وقد تكون واو العطف (و+صفتْ)، ومع الأولى ينبر المقطع الأول(وَ)، ومع الآخرة ينبر المقطع الثاني (صَـ). ومثل بمثل من الإنجليزية لاختلاف النبر حسب كون اللفظ اسمًا أو فعلاً.
وانتقل لتلمس أثر النبر في اللهجات العربية فالفتحة الطويلة قد ينالها التقصير لوقوعها قبل مقطع منبور، مثل: سلامات) سَلَمات، وهذا صحيح فنسمع الجَمْعَة أي الجامعة في لهجة القاهرة، ومَقَدير أي مقادير في لهجة الحجاز. ومن ذلك حذف العلة القصيرة قبل مقطع منبور مثل: كِتاب) كْتاب، ولعل هذا الذي ذكره يفسر البدء بالساكن في كثير من ألفاظ وأعلام الناس في نجد، يقولون في الزلفي قْعَد، وفي القصيم مْحمد، سْماعيل.
ويرتبط حذف الحركة بنوعها؛ فالكسرة والضمة أكثر تعرضًا للحذف بالنبر؛ ولعل ذلك راجع إلى ثقلهما موازنة بالفتحة التي تبقى، ففي فعل الأمر سافِروا تحذف الكسرة في الاستعمال اللهجي سافْروا، ولكن الفتحة من الماضي سافَروا تبقى. ويستثنى من ذلك كونهما لم يلهما علة (واو الجماعة، ياء المخاطبة) مثل سافِرْ، وواضح أن هذا يؤدي إلى نشوء مقطع طويل مختوم بصحيحين، وكذلك مثل مستعجِل فحذف الكسرة يؤدي إلى توالي ثلاثة أصوات صوامت متوالية. وذكر أمثلة في لهجات حدث فيها قلب مكاني لأخرى (يِكْرِمَك) يِكِرْمَك) ولكن لا قلب في (يِنْصَحَك) لأن الحركة فتحة.
وبين أستاذنا قدم تأثير النبر على تركيب الكلمات في العربية القديمة من مثل حذف العلة من (قبيلة) ونحوها عند النسب: قَبِيليّ) قَبِلِيّ) قَبَلِيّ، ولعل العدول من الكسر إلى الفتح هو تخلص من المتماثلات، فاللفظ مختوم بكسرة وياء مشددة. وكذلك يفسر العدول عن مثل (حاليف) إلى حليف، فالتقصير لوقوع العلة الطويلة قبل المقطع المنبور. والمصدر من (فاعَلَ) هو في الأصل (فيعال)؛ ولكن قصرت العلة فصار إلى (فِعال): (كافح: كيفاح) كِفاح)، ويؤيد هذا بأن (حِوار) لم تعل إلى ياء كما أعلت في مصدر قام (قِوام) قِيام)، لأن الأصل هو (حيوار). وكذلك ينقل عن برجستراسر أن (تِلك) في أصلها (تيلك) مثل (ذلك)، فهي تتألف من ثلاثة عناصر: تي+لِ+ كَ، وحذفت كسرة اللام تخفيفًا. وفسر أستاذنا علة التخفيف بوقوع الكسرة بعد مقطع منبور، وختم بقوله «ومهما يكن من أمر فإن تلك قد دخلت الفصحى –كما يبدو لي- من لهجة غير اللهجة التي جاءت منها ذلك، وإلا كانت الكلمة الأخرة تلفظ ذَلْكَ، بفتحة قصيرة، بعد الذال ودون كسرة بعد اللام»(1). ولعل كون العلة فتحة هو ما أبقاها كما بقيت الفتحات القصار في المثل التي ذكرها من قبل. ويمكن أن نضيف من آثار النبر في العربية القديمة جواز قصر الممدود، ومرده إلى نبر المقطع الأول، وقد يؤثر نبر المقطع الثاني إلى مدّ المقصور ولكنه نادر مثل: غنى) غناء(2).
يتبع
... ... ...
(1) عبده، دراسات في علم أصوات العربية، 1: 154.
(2) انظر: خالد الأزهري، التصريح على التوضيح، 2: 505.