د. محمد بن إبراهيم الملحم
كما توجد في الغرب مؤسسات حكومية مهمة للدراسات والأبحاث التعليمية لدعم القرارات التغييرية في التعليم، ففي الشرق توجد مثل هذه المؤسسات المهمة، ولم تأت النهضة التعليمية في دول الشرق الآسيوي باجتهادات التجربة والخطأ أو مجرد القص واللصق كما تحاول كثير من البلدان أن تصنع اليوم، بل رسمت لأنفسها خارطة طريق تعليمية تتناسب وظروفها المحلية وتتماهى مع مواردها وفرصها المتاحة لاقتصاد زاهر، فالسنغافوريون مثلاً أنجزوا دراسة الدكتور قوه Goh Keng Swee الشهيرة والتي أسهمت في إصلاحات مهمة لفترة حرجة حيث بين عامي 1970 و1975 كان هناك استقالات للمعلمين ونشوء ظاهرة أن 30% يتركون التعليم بعد المرحلة الابتدائية، فكان تقرير «قوه» عام 1979 مشيرًا إلى 3 نتائج مهمة: هدر في التعليم العالي، انخفاض مستويات الإلمام بالقراءة والكتابة وعدم جدوى التعليم بلغتين معًا، فجعل التدريس بلغة واحدة (الإنجليزية) والثانية اختيارية تكون أيًا من اللغات المحلية الثلاث السائدة، كما طبقت توصياتها الأخرى في الثمانينات وجاءت بنتائج مذهلة للتعليم السنغافوري.
الدراسات السنغافورية التي تتبعت الطلاب الذين ينهون الثانوية ولا يتمكنون من إكمال الجامعة بسبب ضعفهم الأكاديمي لاحظت أن هؤلاء لديهم مهارات مطلوبة في السوق Marketable Skills لذلك تم عمل نظام تتبع يساند نظام الاختبارات المعيارية الذي يصنف الطلاب بحيث يستطيع هذا النظام أن يستثمر في هؤلاء الطلاب بوضعهم في التدريب المهني المناسب لهم خاصة مع التوسع في إنشاء معاهد التدريب المهني والتقني بتلك الفترة لتزايد الطلب على اليد العاملة المدربة تقنيًا.
كوريا اعتمدت على معهدها الراقي (كيدي) معهد التطوير التعليمي الكوري Korean Educational Development Institute (KEDI) والذي أنشأته وزارة التعليم والعلوم والتكنولوجيا 1972 ليكون وسيلتها لوضع أنظمة التعليم وتطبيقاتها، ولذلك فإنه يوصف كمعمل أفكار Think Tank والذي من خلاله تخرج الأفكار والمبادرات النوعية للتعليم الكوري، وهو يعنى بالشراكات مع المؤسسات البحثية البارزة دوليًا مثل منظمة التعاون الاقتصادي الأوروبي OECD واليونسكو والبنك الدولي، ولذلك فإنه مصنف كمؤسسة دولية في البحث العلمي التربوي لتطوير النظم التعليمية ويصدر مجلة علمية محكمة The Journal of Korean Education وتنشر فيها أبحاث علمية بالإضافة إلى تقارير المعهد البحثية لتطوير التعليم في كوريا، ومنها مثلاً تقرير حديث 2017 يدرس تحليلاً شاملاً للموقف الحالي للفجوات التعليمية في كوريا وقد تصفحته قليلاً لأجده يتحدث عن كيفية تأثير الفروق الاجتماعية والاقتصادية للأسر على التحاق أبنائها بالمستويات الأعلى في الدراسة، وأثر ذلك على سوق العمل وما إلى ذلك مما تجده فعلاً تقريرًا عملياً يخدم علاقة التعليم بالتنمية الاقتصادية في الدولة ويجعله مرتبطًا بها بشكل عضوي واضح، هذا المعهد حاز بعد ست سنوات من تأسيسه فقط 1978 على جائزة عالمية من الموسوعة البريطانية لأفضل عشرة معاهد عالمية في التعليم، وفي التسعينات حصل على جائزتين من اليونسكو ثم جائزة المركزالأول في استخدام تقنية المعلومات في التعليم عام 2007، وقد اعتبرت معايير المعلوماتية التعليمية التي أنشأها المعهد معايير عالمية عام 2009، وقد خرجت من رحم هذا المعهد كثير من المؤسسات والمعاهد المتخصصة في مختلف المجالات، كالمناهج والتعلم عن بعد والملتيميديا وغيرها، حيث نشأت لديه في البداية ثم استقلت كمؤسسات كبيرة لها أهميتها للتعليم الكوري.
مع هذا العرض المعلوماتي لنسأل أنفسنا: كم بحثًا عمليًا وظيفيًا تعملها وزارات التعليم في الدول العربية لأجل تطوير التعليم لديها؟ ثم لنسأل سؤالاً آخر: ما مستوى جودة هذه الأبحاث؟ ثم لنسأل سؤالاً ثالثاً: ما مدى إيمانها هي نفسها بتلك الأبحاث التي تجريها هي؟ ثم لنسأل سؤالاً رابعاً: كم دراسة علمية (سواء عملتها وزارة تعليم أو غيرها أو حتى مؤسسات دولية عظيمة) قامت وزارة تعليم بتطبيق ما فيها من توصيات لأجل النهوض واللحاق بركب التقدم التعليمي؟