د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
** لاحظ جفاءً في تعامله لم يعرف له سببًا فتجاهله ولم يعنِه لأنه -بإيجاز- لا يعرفه حيث ضمتهما الوظيفة لا أكثر، ثم بدا «الجافي» يتقرب منه حتى كاد يلتصق به، وسأله عن مبرر الإدبار بدءًا والإيثار منتهىً فلم يُقنعه بسببٍ منطقي، وأيقن أنه «الهوى» يقودُ الأعمى فلا يُبصر ولا يتبصر، وفي موقعٍ عمليٍ آخرَ أتاه من تطوع -دون طلب- ليحذره من «فلان» لأنه سريعُ الانفعال كثيرُ المشكلات، ويشاء الله الذي يؤلف بين القلوب أن يكونا صديقين لم يختلفا يومًا وربط الودُّ بينهما حتى غادرا موقعيهما، وقال واحدٌ فيه ما يشبه ما قاله مالك في الخمر ثم أتاه مقبلاً معتذرًا عن افتراضاتٍ واهمةٍ صنعها ذهنه، وهذه نماذج من مواقفَ «غيرِ سويةٍ» يمارسها غير الأسوياء، ويتعامل معها الأثر: «أحبب حبيبك هونًا ما... وأبغض بغيضك هونًا ما...».
** وروى أحد المعنيين بالتأريخ الشِّفاهي أن شخصًا وشى بآخر -قبل مئة عام أو تزيد قليلاً- لدى متنفذٍ بإحدى البلدات واصمًا إياه بتهمة قاسية فطلبه المسؤول ولم يكن يعرفه، وحين خرجا من المسجد عرَّف نفسه فاحتفى به ثم ودَّعه ولم يقل له شيئًا، وأبلغ مرافقيه أن مثل هذا الإنسان يستحيل أن يصدر عنه ما اتُّهم به موقنًا أنها وشايةٌ من مُغرض، وكذا قادت القياديَّ فراستُه لمعرفة الحق بنفسه دون ضجيج فقد غلب ظنُّ الخير ظنونَ السوء.
** وكما لم تنجُ العلاقات الشخصية من هذا التحيزِ الشفاهي الصامت فإن الساحة الثقافية موبوءةٌ بأمثالهم من ذوي التحيز القولي العلني، ومذ وعينا أنفسنا ووعى من سبقنا ومن لحقنا أنفسهم والتوجيهات تتوالى محذِّرةً من هذا ومناوِئة ذاك، ولا ردَّ منطقيًا على من يستفهم: لماذا؟ سوى أنه «مشبوهٌ في فكره» أو «عليه ملاحظات» أو «حدثنا عنه من نثق به»، وربما وقع الخصام الفكريُّ بين طرفين لا يعرف أحدُهما الآخر اتكاءً على قولٍ ناقصٍ أو رأيٍ غير محايد.
** يستمر الجفاءُ «الثقافي» حتى يجد ما يُذيبه عبر قراءةٍ مستقلةٍ تتسلل إلى المحذور فتكتشف أنها خُدعت بالصورة المموهة -إن لم نقل المشوهة- التي أقنعت شابًا لا يعي أن في القضايا الفكرية بابًا لما لا يجوز الاقتراب منه، ولم يسئ للثقافة أمرٌ كما أساء إليها مُصادرو فضاءاتِها المنطلقة، ولم تستوطن الأدلجةُ أذهانَنا إلا لأن للمؤدلجين -على اختلاف مستوياتهم واتجاهاتهم- قوائمَ للمنحِ والمنع، والعبور والتوقف، والتعظيم والتقزيم.
** يلغُ بعضٌ في أعراض بعضٍ وذممهم وعقيدتهم ووطنيتهم، ويتداول النقلةُ أحكامًا عنهم يتبنونها فيذيعونها ويُشيعونها ويظلمون سواهم كما أنفسِهم وينسون أو يتناسون أن الحكمَ قرينُ التصور، وأن قاضيَ السماء لا يغفل عن قُضاةِ الأرض، وأن السعيدَ من يُطهِّر لسانَه وقلمَه وجوارحَه.
** الحياةُ حياءٌ واحتواء.