إبراهيم بن سعد الماجد
قراءة التاريخ لا أعتبرها مجرد ثقافة من الثقافات التي يضيفها الإنسان إلى رصيده المعرفي, بل أزعم بأنها واجب من الواجبات التي يجب على الإنسان مهما كان موقعه أن يقوم بها, فإن كانت في حق السياسي ورجل الحكم فرض عين, فإنها في حق الشاب كذلك, خاصة قراءته لسيرة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- التي هي أساس تاريخنا في هذا الوطن, فنحن وبكل فخر نُعد امتداد لهذه التاريخ العظيم, وكذلك قراءته لتاريخنا الوطني.. تاريخ قيام هذه الدولة المباركة منذ ثلاثة قرون, وقراءته بشكل خاص للدولة الحديثة.. دولة الملك عبدالعزيز, وقد قلت في مشاركة لي في ندوة أقيمت في مدينة بريدة في شهر رمضان والتي كانت عن كتاب الأمير الدكتور فيصل بن مشعل بن سعود (موجز تاريخ الدولة السعودية) قلت إن جهل الجيل الجديد بتاريخ دولته أمر خطير ولا يجب التهاون فيه, فنحن عندما نتكلم عن تاريخ دولتنا وتاريخ الأسرة الحاكمة (آل سعود) فإننا في الحقيقة نتكلم عن أنفسنا.. نتكلم عن كل فرد سعودي, فكل مواطن سعودي هو في الحقيقة من هذه الأسرة كما أن أي فرد من هذه الأسرة (آل سعود) هو مواطن, ولذا فلا يُعد معرفة تاريخ آل سعود حكراً على أفراد الأسرة الحاكمة بل إنه تاريخ كل مواطن وتاريخ وطن.
إن كان الشعر يُعلم الفصاحة والبيان, كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه (علموا أبناءكم الشعر فإنه يوسع الأشداق) فإن التاريخ يُعلم حب الأوطان ويرسخ وحدتها ويقوي شوكتها, كما أنه يُعد جامعة مفتوحة لرجل السياسة فهو من يجعله يقرأ ويقرر للوقائع والأحداث ومن ثم يتخذ القرار الأصوب والأنسب.
الملك سلمان بن عبد العزيز -يحفظه الله- من رجال التاريخ الأفذاذ, فهو قارئ نهم شغوف محب, يأسرك بحديثه إذا أبحر في قراءته للتاريخ سواء القديم أو الحديث, فهو القارئ الواعي المدرك. بين يدي محاضرة له -حفظه الله- ألقاها في جامعة أم القرى مساء 21-3-1429 للهجرة وجاءت تحت عنوان (ملامح إنسانية من سيرة الملك عبد العزيز) وأصدرتها دارة الملك عبدالعزيز في كتاب عام 1431 للهجرة وقد سعدت بقراءته, بل أعود له بين فينة وأخرى لما يحمله من مضامين إنسانية عالية القيمة, وأنا الشغوف بكل عمل إنساني كوني ممن يؤمن إيمان راسخ بأن قيمة الإنسان تكمن في إنسانيته لا جبروته وفوقيته, ويكفينا أن قدوتنا عليه أفضل الصلاة والسلام (كان خلقه القرآن) والقرآن هو من يُعلم الإنسانية والرحمة والرأفة مع كل مخلوق على وجه الأرض فكيف مع الإنسان.
سأقرأ للقارئ الكريم بعضاً من مواقف الملك عبدالعزيز -رحمه الله- الإنسانية التي ذكرها المحاضر -الملك سلمان بن عبدالعزيز- في محاضرته تلك:
يذكر أن الملك عبدالعزيز أبتسم مرة في مجلسه وفي ضيافته نوري الشعلان شيخ الرولة من عنزة ففسر الملك عبدالعزيز ابتسامته تلك لضيفه نوري قائلاً: هل ترى هؤلاء الجالسين حولك يا أخ نوري؟ ما منهم أحد إلا حاربته وعاداني وواجهته, فرد الشيخ نوري قائلاً: سيفك طويل يا طويل العمر, فأوضح الملك عبدالعزيز أن السبب لم يكن السيف فقط قائلاً: إنما أحللتهم المكانة التي لهم أيام سلطانهم.
ومن المواقف الإنسانية التي تدل على عظم هذا القائد وإنسانيته وبعد نظره ما حصل كما ذكر المحاضر مع رشيد بن ناصر بن ليلى الذي كان وكيلاً لخصمه (ابن رشيد) في تركيا فبعد دخول الملك عبدالعزيز لحائل أراد بن ليلى العودة إلى البلاد, فكتب إليه مع خشيته من أن ماضيه قد لا يشفع له, وفوجئ بالإجابة التي احتوت على الترحيب به, بل أكثر من ذلك فقد عينه الملك عضواً في مجلس الشورى, وقال -فهد المارك- في كتابه (من شيم الملك عبدالعزيز) أنه في إحدى المناسبات أشار الملك عبدالعزيز إلى إصابة في يده وقال: إن هذه الإصابة هي من قنبلة المدفع الذي بعثه هذا الرجل يقصد ابن ليلى, فرد ابن ليلى: إن ذلك في الماضي, فقال الملك عبدالعزيز: إن عملك هذا من أعمال الأوفياء مع بني قومهم, وأصبح رشيد ابن ليلى من رجاله المخلصين ومندوب ثقة له في علاقاته مع تركيا وغيرها.
إن معاملة الملك عبدالعزيز لخصومه ولمن كان معهم تُعد من الأخلاق العربية التي أقرها الإسلام ونبيه محمد -صلى الله عليه وسلم- وما الملك عبدالعزيز -رحمه الله- إلا متبعاً غير مبتدع.
في تلك المحاضرة يذكر المحاضر أن الملك عبدالعزيز قام بدور المحامي لامرأة جاءت لقصره في مكة شاكية هضم حقها في الميراث فما كان من الملك إلا أن أخذ ما معها من أوراق وقال إنه وكيلها وتابع أمرها مع المحكمة حتى أخذه لها.
ومما عُرف عن الملك عبدالعزيز تقديره ووفاؤه لمن يؤدون أعمالاً إنسانية حتى ولو كان دورهم هذا في زمن خصمه وأيام محاربته, فهذا هو يكرم الشيخ محمد الطويل من أهل جدة, بعد دخوله لها نظير ما كان يقوم به الطويل من شراء الاحتياجات للمحتاجين وتدبير سكناهم على الرغم من أن ذلك كان في صف خصمه.
القصص لا تنتهي, والمواقف تترا, عن إنسانية رجل قام وحيداً وجابه أمماً وكان سلاحه الأقوى والأمضى عقيدة راسخة بنصر الله, كونه جاء ناصراً لدين الله حامياً لمقدساته, حافظاً للأعراض, حاقناً للدماء.
إنسانية الملك عبدالعزيز أعتقد جازماً بأنها مما ورثه لأبنائه الملوك الذين جاءوا من بعده, حتى أطلق على هذا البلاد -مملكة الإنسانية- وهو لقب مستحق بكل جدارة.
أختم برجاء أن نولي تاريخنا العناية التي يستحقها ونعلمها صغارنا وكبارنا, لما لها من أثر بالغ على تنشئة أجيالنا, مؤكداً أن تاريخنا يبدأ من بعثة محمد -صلى الله عليه وسلم-, فهذه أرض العروبة والإسلام, وهؤلاء الأئمة من آل سعود أئمة هدى ونور.