د. فوزية البكر
مع تسارع دقات الساعة لنهاية يوم السبت 9/ 10 وبدء الدقائق الأولى من اليوم التاريخي 10/ 10 الموافق 24 يونيو 2018 تهاوى شيء ما بداخلي بعد سنين طويلة من التحريم والتهويل، بدا الأمر سهلا للغاية لكنه أيضا كان يشبه ركوب دراجة المستحيل والسير بها بسرعة الألف ميل.. خرجنا في السيارة مجتمعات كنساء مع شقيقتي مشاعل وخلفنا الأخوة ممثلا بشقيقي منصور وبزوجي فهد لدعم الحماية بالشعور بالأمان بعد الخروج من الكهف المظلم الذي بدأت أنوار التنوير تضربه بقوة حتى بدأت أعمدته الوهمية تتهاوى واحدًا تلو آخر. الشابات لينا ورغد البكر والسائقة المتمكنة ماجدولين العتيق، كن غير مصدقات للحظة التاريخية التي كانت تجري أمام أعينهن.
بدأنا نجوب طرقات الرياض التي كانت عامرة بالبشر احتفاء بالقرار التاريخي عكس ما كان يصوره البعض. لأول مرة أركب السيارة دون حاجة واضحة إلا لأؤكد لنفسي بأننا فعلا في اليوم المشهود وأن المرأة تستطيع حقا أن تمسك بمفتاح سيارتها متى أرادت وأينما أرادت وتنطلق.
فكرت في سائقي الذي خدمني لسنوات طوال: كيف تحمل كل هذه الاجتماعات أو عزائم الأقارب والصديقات دون تذمر؟ كيف تحمل المسكين الذي كان يعذبني انتظاره الذي لا هدف منتج له إلا انتظاري. كنت أسأل نفسي هل لو أرغمني الزمن: هل أستطيع أن أنتظر بدون هدف؟ في الحر؟ في البرد؟ لم يسأل أحد هؤلاء السائقين الذين خدمونا وأعانونا حين لم تكن لنا حيلة كنساء كيف يشعرون؟ حان الوقت أن نفكر فيهم.
أريد أن أرسل لسائقي بابو (الهندي) المخلص الذي ربما لن يقرأ هذه الكلمات لأنها موجهة لكم بلغة عربية: شكرا لأنك أعنتني في زمن لم أكن قادرة على إعانة نفسي لكن وقبل كل شيء أقول: شكرا لك أميرنا الشجاع: أيها الرجل الحقيقي ومن ساعدني شخصيا للتخلص من هذا الشعور الدوني بالعجز وقلة الحيلة: أقول لك يا أميرنا المخلص: أنت لم تحرر النساء السعوديات فقط، أنت أنقذتهن من ضعفهن وحاجتهن. فشكرا لك لتفكيك هذه المشاعر السلبية التي لم أكن أعرف كيف أتعامل معها إلا عبر قرارك التاريخي.
قرار القيادة لا يعني فقط قيادة سيارة بالطبع، فهذا فعل ميكانيكي آلي تقوم به نساء العالم ملايين المرات كل يوم لكنه يتجاوزذلك بالنسبة لنا كنساء سعوديات إلى الشعور العقلي والنفسي بالاستقلالية وبقيمة الفرد الإنسان في أن يكون مسؤولا عن نفسه وأن يعترف بقدرته الذاتية على اتخاذ القرار. إنه الاعتراف بنا كقيمة إنسانية بعيدا عن التصنيف الجندري الذي يرسم علاقتنا الاجتماعية في هذا المجتمع المتخم بالتعقيد في علاقاته: علاقة الجنس كأنثى وذكر وعلاقات الطبقة كفقير وغني.
أقول لكم: ستحتاج هذه اللحظات التاريخية إلى الكثير من الدراسة والتبصر ولأعطيكم مثالا حاضرا ستعيشه الكثيرات خلال هذه السنة:
خبرة القيادة التراكمية غير موجودة الآن لدى الكثير من السائقات السعوديات الجديدات على الموقف مما سيولد لحظات رعب كثيرة أثناء قيادتهن لكنها ستغيرهن من الداخل إلى الأبد وستتغير آلية (ما) داخل عقولهن التي اعتادت انتظار وتلقي الأوامر إلى آلية القائد المضطر إلى اتخاذ القرار في طرفة عين مما يعني تحولا داخليا وثقافيا سيمتد أثره على مجالات أخرى لحياتهن كنساء سعوديات مثل ارتفاع جرعة الثقة بالنفس والتفكر في بعض قرارات الزميل الذكر الذي ليس بالضرورة أن تكون صائبة تماما كما تم تعليمنا طوال سنوات التنشئة الاجتماعية السلبية وستتيح مهاراتهن الجديدة الوصول إلى فرص منافسة بإزاحة هذا العائق الوهمي المسمى (قيادة السيارة) الذي حملناه هما أشغل المجتمع لأكثر من 28 سنة ذهبت كلها هباء منثورا.
يا لخسارة تلك العقول والحيوات الذكورية والنسوية التي جندت من أجل (اللا قضية) لنصل إلى اليوم الذي أقر فيه الجميع بأن قيادة السيارة كانت مجرد لعبة مضحكة استخدمها الصحويون لتأخير النمو الاجتماعي والثقافي لهذا الوطن بإشغاله بقضايا جزئية وتبديد قدرات أبنائه العقلية والجسدية بعيدا عن القضايا الحيوية لبناء الوطن كما فعلت الأمم النامية ممن سبقتنا مثل ماليزيا وإندونيسيا وسنغافورة.. إلخ.
أتعاطف مع من ما زالوا في دائرة الممانعة للقرار إذ ليس من السهل أن تعيش كذبة طويلة وكبيرة بهذا الحجم وأن تستثمر فيها كل طاقاتك وعلاقاتك لتتهاوى أمام عينيك في لحظة.
علينا كمجتمع متماسك محب لبعضه البعض أن نحتضن إخواننا وأخواتنا من المواطنين الذين يجدون صعوبة في قبول القرار ولندعمهم بالتهيئة الاجتماعية والعقلية وبالتنمية الثقافية المطلوبة ليس فقط لموضوع قبول قيادة المرأة بل للتعايش مع أمور كثيرة وعلى رأسها المشاركة العامة للمرأة في الفضاء العام وتهاوي جبال الفصل المزعومة بين الجنسين.
نحن بحاجة إلى سلام داخلي يزرع الورع بأهمية الوطن أولا وقبل كل شيء وعاش هذا الوطن آمنا مستقرا.