د. حسن بن فهد الهويمل
لا شيء أفضل من [الوسطية]، حتى في [الحُبِّ]، وفي الحديث:- [أحْبِبْ حَبِيبَكَ هَوْناً ما]، مع أنه يمثل النقاء، والصفاء، والراحة.
[الأكل، والشرب] من لذائذ الحياة، ومتعها. ومع ذلك نُهِيَ عن الإسراف فيه:- {وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ}.
و[العطاء]، وهو سمة الكرم، نُهي فيه عن الإسراف:- {وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ}.
ودعك من اللذائذ الحسية. وتعال إلى اللذائذ المعنوية:- [أَرِحْنَا يا بِلاَلُ بِالصَّلاَةِ]. لقد نُهِيَ عن المبالغة فِيها:- {وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا}. {مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى}. على تفسير [طَهْ] بطأ الأرض، ولا تشق على نفسك بطول الصلاة.
و[القرآن] كلام الله، أمر الله بقراءة ما تيسر منه، لأن الله وضع حسابا للمرضى، وللمتاجرين، وللمقاتلين في سبيل الله.
وحديث الثلاثة الذين تعهدوا بالانقطاع للعبادة. قال لهم الرؤوف الرحيم:- [مَنْ رَغِبَ عَنْ سنَّتي فَلَيسَ مِنِّي].
فكأن [التطرفَ] في العبادات رَغْبَةٌ عن سنة المصطفى، وخروجٌ متعمد على مقاصد الشريعة.
فالإنسان قبضة من تراب، ونفخة من روح. وتناقضهما يتطلب التوازن في إشباع الجسد، والروح دونما إسراف، أو إجحاف. وأي إخلال في شيء من حقوق القبضة، والنفخة خروج على الفِطَرِ السليمة.
المبالغة في المناقب، وأسطرة الشخصيات باب من أبواب [التطرف] المذموم. إذ من الاعتداء تقديم الشخصيات على أنها ملائكية سوية، لا تخطئُ في القول، ولا تُقَصِّرُ في العمل.
وحين تكون قدوة بهذا التعدي، يندفع الشباب العاطفيون، مُحاولين التفوق على السلف، فيما يكون السلف دون ما يقال عنهم.
الناس في النهاية بشر لهم، وعليهم، حتى الرسل كانت لهم إلمامات خاطئة، واجتهادات غير صائبة، لم يُقَرُّوا عليها.
ويكفي دليلاً على ذلك نَهْي المصطفى عن الإطراء:- [لا تُطْرُونِي كَمَا أطْرَتِْ النَّصارَى ابْنَ مرْيَم].
ومن تتبع آي الذكر الحكيم، وجدها تؤكد على [بشرية] الرسول، وتحديد مهمته:- {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ}.
فالتركيز على [البشرية] وقول الله:- {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ}. استباق للحيلولة دون الغلو، والإطراء، بوصفه مَيْلاً فطرِياً لمعبود مَرْئي:- [اجْعَلْ لَنَا ذَاتَ أَنْوَاطٍ]، اجْعَل لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ}.
فكيف إذا كان الإطراء بحق الأولياء، عند [المتصوفة]، أو بحق [آل البيت] عند الشيعة.
حب الرسول جزء من العقيدة، ومحقق للإيمان:- [لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكونَ أحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِه وَالنَّاسِ أَجْمَعينَ]. ولا معارضة بين إيجاب [الحب]، والنهي عن [الإطراء]، إذ لا علاقة وجود، أو عدم بينهما. ذلك أن [الحب] امتثال للأمر، و[الإطراء] خروج بالمحبوب عن بشريته.
و[كل شيء تجاوز حده انقلب إلى ضده] ثم إن المدَّاحين الذين يُحْثَى في وجوههم التراب، هم الذين يفترون الكذب، ويقولون في الإنسان ما ليس فيه.
وفي الحكم:- [مَنْ قَالَ فِيك مَالَيْسَ فِيك فَقَدْ ذَمَّكَ]. وحديث مرور الجنازة، والثناء عليها بالخير، أو بالشر يؤكد مشروعية المدح، والذم الصادقين. وفي الحديث:- [بِئْسَ أَخُو الْعَشِيرَةِ].
الدين الإسلامي دين الوسطية:- {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ}، {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا}. كُتِبَتْ عليهم، ولكنهم لم يحسنوا تَمَثُّلها.
وفي الأثر:- [إنَّ هَذَا الدِّينَ مَتِينٌ فأوغِل فيه بِرِفْقٍ].
وعاظ عاطفيون يتسابقون في المبالغة، والإثارة. ينقلون الدين من ربانيته إلى عواطفهم البشرية.
و[المناوئون] للإسلام، يلتقطون المبالغات، بوصفها نصاً تشريعياً، ثم يجدونها مخالفة للفطر السليمة، فيدينون الإسلام من أفواه المسلمين.
سمعت أحدهم يدعي أن حافظاً للقرآن، يختم في رمضان [ستين ختمة] عِلْمَاً أنه يتخلل ذلك أكلٌ، وشربٌ، وفرائض، ونوافلٌ، ونومٌ، وعملٌ، ومعاشرةُ أهلٍ. وكل ذلك حتم، أو واجب.
وحتى لو صح هذا الادعاء، فإن الذي يختم في اليوم الواحد ختمتين مخالفٌ لسنة المصطفى. وفي الحديث الصحيح:- [فاقرأه في سبع، ولا تزد على ذلك]. والأمر يقتضي الوجوب.
وقد نَفَّرَ الرسول من الختم في ثلاثة أيام، فكيف بمن يختم القرآن في نصف يوم. وفي الحديث:- [لا يَفْقَه من قَرَأ القرآن في أقلِّ من ثلاث].
الوعاظ الذين يتصدرون المواقع، ويوجفون على المنابر:- {يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا}.
ثم إن القراءة لـ[الترتيل]، و[التدبر]، ولن يتحقق شيء من ذلك عند من يختم في ثلاثة أيام، فكيف بمن يختمه مرتين في اليوم.
لا يجب التسامح مع من ينسجون الأنساق الثقافية بمواعظهم المتطرفة، وادعاءاتهم الكاذبة، وانحرافاتهم البَيِّنَة.
الدين: تلقٍ، وفهم، وامتثال. وعلى العلماء العقلاء أطرُ أولئك، والتأكيدُ عليهم بالتزام المحجة، والحجة، وعدم الإيجاف العاطفي على العامة، بما هو مخالف لأمر الرسول.
التطرف، والغلو، قد لايتعمده الوعاظ، ولكنهم يقعون فيه من حيث لا يشعرون.
في [كتب الرقائق] أحاديث ضعيفة، وموضوعة، والبعض من الجهلة المتعالمين يغض الطرف عنها. لأنها -كما يَدَّعِي- كذبٌ لصالح الدين.
والشيطان يوحي إلى هذا الصنف الرديئ بأن الناس بحاجة إلى المبالغة في الموعظة، والإلحاح بها. والرسول يتخول أصحابه بها.
والمخطئ حين يكون خطؤه في سبيل الدعوة، يُذَبُّ عنه. ويُعْذَر. لأنه كما يَدَّعُون فاعل خير.
والحق أن منع هذا الصنف، ومعاقبته أهم من معاقبة ما سواه، لأنه يحرِّف الكلم من بعد مواضعه.
كل مبالغة لا تجد من يأطرها، تؤدي إلى مبالغة أكبر. وفي النهاية يُطْرح دين لم يأمر به الله. وويل لأمة تحمي المخطئ، لمجرد أنه متلبس بمهمة الرسل، وهي الإبلاغ.
الإسلام له مقاصد، وغايات، وفلسفة في الحياة، تقوم على حفظ التوازن بين مطالب الروح، والجسد.
و[عمر بن الخطاب] رضي الله عنه ربما يكون من أوائل من أخذ بالمقاصد، فهو يضرب بـ[الدرة] من يتعبد في وقت العمل. وهو قد أسقط حق [المؤلفة] في الزكاة، لأنها فُرِضَت لهم في ضعف الإسلام. ولما قويت شوكته، لم يعد بحاجة إلى التأليف.
وهو قد أوقف [حد السرقة] في عام [الرمادة] لأن المرحلة مرحلة اضطرار.
لهذا يجب أن تنهض الجهات المعنية بمنع الوعاظ المتطرفين، الذين يبالغون في التخويف، ويسرفون في اتهام المسلمين بالتقصير، وأسطرة السلف.
ويدخل في ذلك كل من تكلم في أمر الدين، وهو لا يملك حق الاجتهاد، ولا يعرف مقاصد التشريع.
لقد انسحبت المبالغة، والتطرف على أمور تضر بالأمة. كالمتحدث عن [الجهاد]، و[تكفير] المعين، والتَّهوين من أمر الخروج على الجماعة، وإشاعة شواذ المسائل، وتغليب الأخذ بالفاضل على جمع الكلمة، ووحدة الأمة.
إن على علماء الأمة المعتمدين من ولي الأمر، والمسؤولين الذين أسندت لهم مهمات [الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر]، وأنيط بهم شأن المساجد، والخطباء، والإفتاء، أن يكونوا في مستوى مسؤولياتهم، وألا تأخذهم في الحق لومة لائم.
لا نريد لـ[الإسلام] أن يختطف، ولا نريد له أن يكون دُوْلَةً بين الجهلة، والورعين، وأنصاف المتعلمين.