د. محمد بن عبدالله آل عبداللطيف
«ابكِ كالنِّسَاء حُكْمَاً لم تحمِهِ كالرجال».. جملة شهيرة وحكمة مأثورة قالتها زوجة حاكم غرناطة، أبو عبدالله الثاني عشر، آخر ملوك المسلمين في أسبانيا، لزوجها عندما سلم غرناطة وقصرها الشهير «الحمراء لملك قشتالة وآراجون فرديناد وزوجته إيزابيلا، وقد أسماه الأسبان بالصغير تحقيرًا له، وأسماه العرب والمسلمون بالتعيس لتفريطه في غرناطة بلا حرب.
ومن يشاهد عظمة آثار المسلمين في الأندلس يعجب لسقوطها، ويحزن لعدم استمرارها، ويبكي للتشويه الذي حل بمساجدها وقصورها عندما حولها المسيحيون لكنائس شوهوها بالصلبان وتماثيل المسيح والأحبار.
وقد يعيد التاريخ نفسه بأشكال مختلفة وفي مناطق أخرى من العالم، حيث تنهار دول وتقوم أخرى فهذه سنة أبدية. ولكني تذكرت هذه المقولة عندما خطر بذهني ضياع فلسطين وسقوط القدس وتهويدها بالكامل وتغيير معالمها وأسماء شوارعها، وخسارة العراق وسوريا بشكل مشابه. وأرقب في الأفق القريب ربما ضياع ديار عربية إسلامية أخرى مستقبلا، لو استمر الحال على ما هو عليه.
ولاشك أن البكاء على سقوط الدول لا يشمل العرب والمسلمين وحدهم، ولكن يشمل غيرهم ممن فرطوا في ديارهم، ولولا ضعف المسيحيين في أسبانيا مثلاً لما سيطر عليهم المسلمون، ولولا ضعف الروم ما فتح العرب القدس ولا سيطر الأتراك على القسطنطينية من الروم وحولوها إلى اسطنبول، والأمثلة غير ذلك كثيرة.
والعبرة تبقى في المقولة الشهيرة أعلاه بأن من لا يحمي ملكه كالرجال يبكيه كالنساء.
والدارس للتاريخ يستطيع استقراء أسباب سقوط أمم ونهوض أخرى، وخير السياسيين هم من يلم بالتاريخ جيدًا، تاريخ أممهم وتاريخ الأمم الأخرى. وقد تسقط أمم عظيمة بشكل بسيط ولأسباب غريبة، كما سقط مُلْك المسلمين في أسبانيا، أو ملك العثمانيين في تركيا، أو الامبراطورية الرومانية في روما. ولكن تبقى هناك عوامل تاريخية مشتركة لأسباب السقوط، أسباب تتعلق بالطبيعة البشرية ذاتها، ولعل من أهمها الفساد والظلم.
فعندما فتح المسلمون الديار المحيطة بهم كانت شعوبها ترزح تحت ظلم عظيم، وكان حكامها يستعبدون شعوبها حرفيًا، ويسلبونهم أبسط وسائل العيش الكريم. وعندما وصل المسلمون بنظام أوضح وأكثر عدلاً، وأمنوا الناس على أنفسهم وأموالهم ومعتقداتهم سلموا البلاد لهم فدانت لهم الأرض، ورحب بهم الإنسان الذي كان يتوق للانعتاق، فلا الرايات تحمي البلدان ولا الجيوش وإنما العدل والنماء.
والتاريخ يعيد نفسه دائمًا. فالمسلمون اليوم ممزقون سياسيًا وطائفياً، مهما حاولنا تكييف وصفهم أو تبريره، وخاضوا حروبا طاحنة بينهم، ثلاثون عامًا من الاقتتال بين العراق وإيران، وظلم عظيم في سوريا الأسد وليبيا القذافي ويمن الحوثيين، فلا عجب أن تهود إسرائيل القدس بكل اطمئنان. وعلى العرب أن يبكوا قدسهم كما بكى عبدالله غرناطة.
ما دام بيننا من يعتبر الظلم أمراً طبيعياً للشعوب، ومن يبيع ولاءه لغيره كنصر الله والأسد فقد لا ينفع البكاء مستقبلاً أيضا. فهل يعقل أن يبيع حاكمٌ بلده لقوى خارجية، ويشتت شعبه بالكامل في كافة أنحاء العالم، ويحرق من تبقى منهم في منازلهم شيباً، وأطفالاً ونساءً، كل ذلك مقابل الحفاظ على كرسي الرئاسة؟
ثم نستغرب كيف هودت إسرائيل القدس!!
القدس في نظري انتهى أمرها، وكذلك الضفة الغربية، وهناك من بدأ البكاء عليهما فعلاً، وبلدان عربية ستكون تحت حكم أجنبي، الروس في سوريا، والإيرانيون في العراق، والاوربيون في ليبيا، والخوف كل الخوف هو أن يستمر مسلسل البكاء. فالسوريون تركوا سوريا، والليبيون هجروا ليبيا لأنهم عندما فشلوا في تغيير وضعهم الظالم فيهما، دب فيهم اليأس وتركوها خلفهم.
أطماع الآخرين، وخاصة الصهاينة، لا تتوقف عند القدس أو الضفة الغربية وغيرها، وأطماع الأتراك ليست في السيطرة على قطر وحدها، والإيرانيون يرون أن المنطقة بكاملها كانت جزءًا من إمبراطوريتهم، وأطماع القوى الغربية قد لا تكون في الأرض وإنما في الحصول على ما تحويه من خيرات، وكلما ضعفنا زادت مساحات قضمهم من جسدنا.
يحتاج العرب اليوم لاستلهام التاريخ أكثر من أي وقت مضى، ونحتاج أن ندرك أن الدول يحميها العدل والنماء أكثر من الجيوش، فالجيوش يمكن تشكيلها حتى من مرتزقة، وهي عندما يختل تنظيمها قد تنهار كمنظومات، فالجيش العراقي الجرار انهار ذاتيًا وترك البلد للأمريكان وبعدهم للإيرانيين، وكذلك الجيش الليبي، والجيش اليمني أيام صالح، ولكن تبقى الشعوب فالشعوب هي الخط الأخير الصلب للدفاع عن الأمم، فلولا الظلم القاتل الذي مارسه القشتاليون و الآراجونيون على شعوبهم لما سلموها للمسلمين، ولولا الظلم الذي مارسه حكام بني نصر على المسلمين لما سلموها للأسبان، ولولا الفساد والظلم في مصر عبدالناصر و سوريا الأسد لما هزمت إسرائيل الدول العربية في ست ساعات، ولولا استمرار الفساد والظلم ما هودت القدس. فنحن نحتاج استلهام التاريخ اليوم أكثر من أي وقت مضى.