ما أجمل أن يطيع الإنسان ربَّه ويعصي نفسه، ويرفض أن يتبع هواه. وما أجمل وأكمل من تطبيق ما حضَّ الله تعالى عليه ورتبه في الألباب السليمة من العفة وترك المعاصي ومقارعة الهوى، وأن لا يخالف الله ربَّه في أمره ونهيه، ويخالف إبليس فيما يحبه. وقد عرفنا أن الله جعل في الإنسان طبيعتين متضادتين:-
إحداهما: لا تأمر إلا بخير، ولا تحض إلا على حسن، ولا يتصور فيها إلا كل أمر مرضٍ، وهي العقل.
والثانية: ضد للأولى، لا تشير إلا إلى الشهوات، ولا تقود إلا إلى الشقاوة والردى، وهي النفس.
فهاتان الطبيعتان ركيزتان في الإنسان وفي كل جسد منهما حظه على قدر مقابلته لهما في تقدير الواحد الصمد حين خلق الإنسان وهيأه. فهاتان الطبيعتان تتنازعان أبداً، فإن غلب العقل النفس ارتدع الإنسان وقمع عوارضه ورغباته، ونظر بنور الله، واتبع الحق.
وإذا غلبت النفس العقل عميت البصيرة ولم يميز بين الحسن والقبيح، فيقع الالتباس ويتردى في هوة الردى، ومهواة الهلكة، وبهذا حسن تطبيق الأمر والنهي واستحق الثواب والعقاب، فإذا صحت المعرفة واجتنب الإنسان التعرض للفتن وقعت له السلامة المضمونة، وقديماً ورد: (من وقي شر لقلقه وقبقبه وذبذبه، فقد وقي شر الدنيا بحذافيرها). رواه في الجامع الصغير للسيوطي: 2/ 183.
إن من أفضل ما يأتيه الموظف في عمله التعفف وترك ركوب المخالفة سواء كان عمله في قطاع خاص أو عام، وأن يقصد في تعففه مجازاة خالقه له بالنعيم الدائم في دار الخلد، وأن لا يعصي ربه المتفضل عليه الذي جعل له مكاناً علياً، وأهلاً لأمره ونهيه، وجعل كلامه ثابتاً لديه، عناية منه به وإحساناً إليه. وأن من هام قلبه أن يقع في المخالفة واشتد شوقه إلى ذلك ثم أقام العقل وجعله حصناً منيعاً لنفسه، وعلم أن ما دفعه إلى المخالفة إنما هي النفس الأمارة بالسوء، وذكرها بعقاب الله، وفكر حقيقة في جرأته على المخالفة ومعصيته لخالقه وهو يراه، وحذر نفسه من يوم المعاد، والوقوف بين يدي الملك العزيز الشديد العقاب الذي لا يحتاج إلى بينة، ونظر بعين ضميره إلى انفراده عن كل مدافع عنه من محامٍ وغيره بحضرة علام الغيوب {يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} (88-89) سورة الشعراء.
فكيف بمن طوى قلبه على أحرّ من جمر الغضا، وصرف نفسه كرهاً عما طمعت فيه، وتيقنت ببلوغه وتهيأت له، ولم يحل بينها وبين ما تشتهي إلا مراقبة الله، لحري أن يسر غداً يوم البعث، ويكون من المقربين في دار الجزاء وعالم الخلود، وأن يأمن روعات القيامة وهول المطلع، وأن يعوضه الله من هذه الفتنة الأمن يوم الحشر والأمن في الدنيا.
أخي الموظف كبيراً أو صغيراً في مصلحة خاصة أو عامة، متى عرف الإنسان ربه ومقدار رضاه وسخطه هانت عنده اللذات الذاهبة والحطام الفاني، فكيف يا أخي وقد أتى عليك من وعيده ما تقشعر لسماعه الأجساد، وتذوب لهوله النفوس الصالحة، فانتبه يا أخي، ما فائدة رغبة ولذة ذاهبة لا تذهب الندامة عنها ولا تغني التبعة منها ولا يزول الخزي عن فاعلها، فأين المذهب عن طاعة الله ونحن إلى طريقين لا ثالث لهما، أما إلى جنة، وأما إلى نار، واعلم أن التهاون فيما حرَّم الله هو الضلال المبين.
قال أبوبكر الصديق رضي الله عنه: (كل الحلال يطبع عليها المؤمن إلا الخيانة والكذب).
فانتبه أخي أن تغلب نفسك عقلك، واحرص على العمل المسند إليك وذلك بإنجازه وعدم تأخيره. حافظ عليه، كن أميناً يكن الله معك ويبارك لك في دخلك، احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده أمامك في تيسير عملك ونجاحك وقبول الناس لك، وعليك بالدعاء عند بدء العمل ونهايته: (اللهم فرِّج همي وغمي)، فما أجمل الإنسان إذا اجتنب المحارم المنهي عنها وعمل بالفرائض والواجبات المأمور بها. فلله الحمد على مواهبه المحيطة بنا ونعمه التي غمرتنا. والله ولي التوفيق.
** **
رئيس محاكم جازان - رئيس محكمة استئناف - عضو مجلسي القضاء الأعلى - والأعلى للقضاء سابقاً