عبده الأسمري
ركن من أركان الثقافة وعلم من أعلام الأدب.. في يمناه مشهد للتاريخ وفي يسراه شهادة للأثر...
وفى للحرف واحتفى بالكلمة فكان عنوانا لتفاصيل المخطوفين لألحان حواري جدة العتيقة وديوانا للشغوفين برواشين الميناء العتيق وأهازيج عروس البحر في الرخاء والشدة. كتب أمنياته جبرًا وسط مختبرات الطب وسكب أحلامه حبرًا بين وصفات علاج الأسنان ومواصفات بناء الإنسان فكان ماثلا بين عتاد العلم ومداد المعرفة ثاويا في مسارب البحث مرتويا من مشارب الفكر.
إنه الطبيب الأديب الصحافي والمثقف الدكتور عبدالله مناع أحد أبرز المثقفين والأدباء السعوديين.
بوجه مائل للاسمرار الخفيف هزم كل سنين العمر ليشكل محيا عامر مقتضب شغوف بالحوار خليط بين الجد والود يتوارد من كاريزما فاخرة تستند على أناقة حجازية وغترة بيضاء تتشكل كخارطة ثابتة مع نظارات طبية داكنة لا تفارقه إلا بالمكوث على الورق مع صوت موشح بالجهر متوشح بمفردات الجناس والطباق يحيل حديثة إلى قطعة أدبية إبداعية يخضعها للتدقيق ويرضخها للتحليل مع إشارات يدوية مرافقة للحديث تنم عن حوار إنساني وأدبي وتاريخي في قالب لغوي وتعاقب لفظي قضى عبدالله مناع عمره يعالج المرضى ويواسي المتعبين وينسج قصص الكفاح الأدبي بالكلمة ويرسم حدود الشغف الثقافي بالقلم ويوزع ثمار الإمتاع بالمعنى.
في حارة البحر ركض طفلا يراقب مجالس أدباء الحجاز في تجمعات حارات المظلوم والبحر واليمن والشام مراقبا لغنائم الفجر في موؤنة الصيادين في برحة «الكدوة» ومغانم المعرفة في حلقات العلم بجامع الشافعي ومعالم الرزق في أسواق الخاسكية والعلوي منجذبا لذلك الإرث الأدبي الصادر من بيوت نصيف وباعشن مراقبا لنداءات التجارة حول تلة «العيدروس» ملاحقا لأساتذته بعد كل يوم دراسي متسائلا عن مسافات الابتعاث ومسارات التأليف. كان يومه مبهرا بشقاوة بريئة مختلطة بنقاوة فطرية صقلته وجعلته «قرة عين» أولى لوالديه وجائلة لجيران المكان الذين توسموا فيه «سفيرا» للحارات وموثقا للذكريات نظير ارتباطه بالقلم والورقة وحرصه الباكر على رصف جسور التاريخ بنباهة مبكرة. ونباغة باكرة.
ولد مناع بجدة 1359هـ وتلقى تعليمه العام فيها ثم ابتعث إلى مصر أوائل عام 1957م والتحق بكلية طب الأسنان في جامعة الإسكندرية وتخرج منها عام 1962م.
تآلف مع التأليف باكرا حيث أصدر مجموعة من الخواطر والقصص القصيرة بعنوان لمسات عام 1960. وكتب في مجلة الرائد الأسبوعية المصرية في مساحة أسبوعية ثم نشر فيها قصة مسلسلة في تسع حلقات بعنوان على قمم الشقاء, عاد لأرض الوطن وتم تعيينه طبيبا للأسنان بمستشفى جدة العام. واصل مشواره الأدبي والصحافي في جريدة المدينة ومع قيام المؤسسات الصحافية تم اختياره عضوا بمؤسسة البلاد للصحافة والنشر وتم تعيينه سكرتيرا للجنة الإشراف على التحرير لمدة خمسة سنوات متتالية. كان له عمود يومي على الصفحة الأولى لجريدة البلاد بعنوان صوت البلاد عام 1385- 1386هـ.
أصدر عام 1968م مجموعة قصصية بعنوان أنين الحيارى وكتب في صحيفة عكاظ سلسلة مقالات عن الإنسان والحياة, وأصدر كتابًا آخر بعنوان ملف أحوال عن المكتب المصري بالقاهرة. في عام 1392هـ ترك وزارة الصحة وتفرغ لعيادته وقلمه ثم ترك طب الأسنان مع بداية عام 1394هـ ثم كلف عام في العام ذاته بتأسيس وإصدار مجلة اقرأ واختير رئيسا لتحريرها ترك رئاسة تحرير اقرأ عام 1397 ثم عاد إليها في شوال عام 1399 وظل في منصبه حتى تركه في نهاية رمضان عام 1407هـ.
صدر له كتابه الرابع الطرف الآخر وتم تعيينه عضوا منتدبا لدار البلاد للطباعة والنشر عام 1407هـ, فرئيسا لمجلس الإدارة وعضوا منتدبا للدار في 1410. تم اختياره رئيسا لتحرير مجلة الإعلام والاتصال عام 1419هـ شارك في عشرات المحاضرات والأمسيات الثقافية في الداخل والخارج إلى جانب إصداره للعديد من المؤلفات الأدبية والثقافية والتاريخية الفريدة.
قضى مناع عقودا راكضا في اتجاهات متشعبة كان يراها «رهان عمر» و»ميدان واجب» فكان الأديب الحصيف في محافل «الأثر» والمثقف الوصيف في ميادين «الإيثار» عندما يعشق أن يكون جنديا مجهولا يرسم الانتصار بعيدا عن الإضاءات.. خمسة عقود نازل فيها عبدالله مناع الصعاب مستندا على فصل الخطاب مسددا خطواته إلى دوائر الصواب في سيرة امتلأت بالمشاهد وتشبعت بالشواهد.
فكان عامر الحي الذي أطرب جنبات جدة فكان لمؤلفاته رائحة التراث الثقافي المشفوع بالوجدان وكان لسيرته شذى الميراث الأدبي المسجوع بالعرفان.