د. خيرية السقاف
انقضت ساعتان مدة تأخير الرحلة، والعربة تنهب الطريق نحو المطار, كل شيء في الطريق الممتد من قلب المدينة لم يتغيّر, حتى جذع النخلة التي مات جذرها ينتصب في عين الشمس بلونه الترابي الكالح, الوجوه وحدها التي تغيّرت, وجوه الناس أعني, أما المتاجر, واللوحات, وأعمدة الإنارة بمصابيحها الباهتة, ولوحات الإشارات المتآكلة, والقطط الشاردة, وأتربة السطوح المختلفة, وتلك الروائح النفاذة للحوم المطاعم, وبهارات الطبخ, وأبخرة دواليب العربات فهي كما هي, هو الوحيد الذي لم يتغيّر, يجلس كما اعتاد متقرفصاً داخل ثوبه الفضفاض, يلف أطرافه حول قدميه المنطويتين تحت جسده النحيل, يهش على بوابة متجره الضيق الصغير بمروحة تآكلت حبال الخوص المصنوعة منه بيد, ويحتسي بالأخرى كوب شاي داكن كلما رشف منه قليلاً أضاف إليه, ودلق حبيبات السكر داخله, وحرَّكه..، إناء شاي على طاولة تهالكت أركانها جواره هي أيضاً كما هي لم يتغيّر مكانها, ولم تفرغ مما فوقها..
الطريق من قلب المدينة بهذا كله لم يتغيّر, حتى إذا ما اقترب المطار تزيَّن جانباه بشجيرات خضراء وارفة, وعبارات مفعمة بالترحيب, تلفَّتُّ حولي علني أجد من له هذه العبارات, فلم أخلص إلا بأنها موجهة لي, وأنا المعنية بها, يا له من ذوق رفيع هذا الذي يتمتع به من يستقبلني
مسافرة تحمل الكثير في جوفها, أصوات تهدر, وجوهاً تطوف, أمكنة تشاغب..
ووجهه الصامت, وعينيه الغائرتين, وابتسامته الطافحة بالشوق, ونظراته المطمئنة بالقرب, وعمره الشامخ فوق كتفيه, يا لشهقة الحياة به, ولزفرة الخوف عليه, وللقلق أن يتغيّر المكان حين لا يكون, وأن تتوه الابتسامة في لحظة فراق..
عند بوابة المطار جلجل صوت النداء الأول لموعد إقلاع الرحلة المتأخرة, فامتدت بي الخطوات!!..
وكل شيء يتغيّر.. وأي شيء لا يتغيّر!! ..
نداءات اعتيادية, مواعيد ثابتة وإن تأخرت لا تتقدّم..
دولبة عجلات كما الساقية, جعجعة طحين كما الرحى..
مواسم تعلنها الريح, والموج, والمطر, والثمر, والزمهرير, والقيظ..
إلا ذلك المتقرفص عند مدخل متجره..
وهذا المغمض عينيه الصامت رغم فيضه..
هما محطتان للتأمل
ليسا كمحطة المطار!!..
* * * * *
قرائي الأعزاء
في رحاب محطاتكم سيكون السفر
ويحلو التأمل
وتطيب الرفقة..