حمّاد السالمي
قد تتشابه الأيام في حياة البشر؛ لكن بعض هذه الأيام تحمل دلالات تحولية مهمة في التاريخ؛ بحيث تظل صديقة للذهنية مدى الحياة.
هذا اليوم.. الأحد، العاشر من شهر شوال لعام 1439هـ. الموافق للرابع والعشرين من شهر حزيران يونيو 2018 م. اليوم الأحد؛ يشكل منعطفًا تاريخيًا في حياة المجتمع السعودي، وعلامة تحولية مهمة؛ تأخذ مكانها في التاريخ الاجتماعي السعودي لأجيال قادمة.
الأمر لا يتعلق بقيادة المرأة للسيارة.. هذا الحق الذي تبدأ مزاولته من اليوم الأحد؛ بعد أن ظل نصف المجتمع عدة عقود وهو محروم منه. المسألة لها أكثر من وجه، ذلك أن عددًا كبيرًا لا يستهان به من بنات الوطن؛ كن منذ عقود وعقود وهن يقدن سيارات، سواء في الداخل أو الخارج. آلاف من السعوديات عرفن القيادة في بلدان عربية وأوروبية بحكم إقامتهن هناك للدراسة أو السياحة، وعشرات آلاف منهن؛ كن وما زلن يقدن السيارات في القرى والهجر وحتى المدن الصغيرة الطرفية للضرورة، بعيدًا عن أعين رجال المرور. نحن وإن لم نر سيدات يقدن سيارات في مدننا حتى هذا اليوم المشهود، إلا أننا كنا نشاهدهن يقدنها في الأرياف بكل مهنية وحرفية، ولهذا طالبت في مقال سابق، بأحقية وأولوية هؤلاء النسوة في رخص القيادة قبل غيرهن.
نرى بداية من اليوم؛ سيدات يقدن سيارات في الشوارع جنبًا إلى جنب مع الرجال.. هذا مشهد حضاري وطبيعي يحدث في كل بلدان العالم، لكن أهمية الحدث هذا اليوم؛ تتعدى المشهد إلى كنهه ودلالاته الآنية والمستقبلية. إن شيئًا ما حدث ويحدث في المملكة انطلاقًا من (التحوّل الوطني 2020 - ورؤية السعودية 2030). باختصار شديد؛ فإن طريقتنا في التفكير أخذت تتغير وتتطور إلى ما هو أفضل. لم يعد هناك مجال للعيش والحياة بأسلوب ماضوي يعيدنا إلى حياة ما قبل ألف سنة مضت. العالم يتغير ونحن جزء من هذا العالم، فإن لم نتغير ونطور من أنفسنا؛ سنظل كما نحن أمة تتعثر في خطاها، لأنها تنظر إلى الخلف أكثر مما تنظر إلى الأمام. إن أدوات الأوائل الذين عاشوا قبل ألف عام وأكثر؛ لا تصلح لنا بكل تأكيد، وأدواتنا قد لا تصلح للأجيال من بعدنا، وإن كثيرًا من المفاهيم المغلوطة -والتي تنسب إلى الدين زورًا وبهتانًا- يجب أن تتوقف. هناك الكثير من المفاهيم الحياتية تنطلق من تفسيرات تاريخية لم تصحح ولم تفكك، وظلت تحكم تصرفاتنا، فلم نحصد منها إلا ظهور الظلاميين والمكفرين، وحشد من أولئك الغلاة.. حق القيادة للمرأة وتمكينها من العمل والمشاركة في التنمية، جزء من حزمة إصلاحات تعيد المجتمع إلى طبيعته، وتحقق له مقاربة حقيقية مع الموسيقى والغناء والمسرح وكافة الفنون التي هي من نتاجه في الأصل كمجتمع سوي.
من طرائف القيادة النسوية المبكرة للسيارة؛ ما حصل معي وزميل دراسة في الطائف المأنوس صائفة العام 1391هـ. فقد خرجنا من دارنا بطلعة الجراد في الشهداء الشمالية بعد العصر على دراجتي النارية. كان الجو غائمًا، وكنا قاصدين سد صعب في الوهط، وعلى الطريق الترابي المؤدي إليه بوادي وج، كانت تبارينا سيارة شفر يقودها شخص ملثم بشماغ أحمر، ومعه سيدة كبيرة على ما يبدو وأطفال. وصلنا مع بعضنا إلى السد، ووقفنا ننتظر السيل القادم من بعيد، ولكن لفت نظرنا أن السيارة أخذت تلة قبالتنا، وما لبث أن نزل سائقها الذي حسر لثامه وأطلق شعره الأسود..! فإذا هي فتاة شابة كانت تقود سيارة لترفِّه عن أمها وإخوتها على ما يبدو..! العجيب في الأمر؛ أن المنظر لم يثر أحدًا وقتها، ولو جاء هذا بعد المد (الصحيوني) الذي اجتاح المجتمع، لوقع ما لا تحمد عقباه.
الطرفة الأخرى؛ كان يرويها لنا أستاذنا ومدير تعليمنا الأستاذ سعد عبد الواحد -رحمه الله-، الذي كان معلمًا في المدرسة الأميرية بالطائف قبل ذلك، وتتلمذ عليه عدد من الأمراء والوزراء. قال: بأنه كان مع موجهين متجهين لمدرسة في هجرة في الصحراء من شمالي ظلم على حدود منطقة الرياض. لكنهم ضاعوا في الرمال بسيارتهم، وأخذوا يبحثون يمنة ويسرة دون جدوى، وفجأة؛ ظهر من بعيد ونيت أحمر مسرعًا نحوهم يغطيه الغبار، فلما دنا منهم؛ فُتح شباك السائق، فإذا فتاة ملثمة وبجانبها رشاشها، وتسألهم: من أنتم..؟ على ماذا تبحثون..؟ لكن ما إن أفصحوا لها عن اسم المدرسة حتى قالت: هيا تعالوا وراي. فقادتهم حتى أدخلتهم المدرسة..!.
كتبت في هذه الصحيفة قبل حوالي عشرين عامًا أطالب بهذا الحق. حق المرأة في قيادة السيارة، فقامت علي قيامة التيار الماضوي المتكلس، وتعرضت لشتم وسب وتهديدات من تلك التي تعودت عليها منذ مقالي عن (الخوارج الجدد) قبل سبعة وعشرين عامًا. أحدهم سبني وكاد يكفرني ثم قال: (أنت تحلم. هذا لن يتحقق، وعلى جثتي يا حمّاد)..! وهذا ومثله كثير؛ لا شك أنهم (فكّروا) فتطوروا وتغيروا، فطبيعة البشر التغير والتطور دون شك.. لعل وعسى.
ما يؤثر عن الشيخ محمد الغزالي -رحمه الله- قوله: (أنا لا أخشى على الإنسان الذى يفكّر وإن ضلّ، لأنّه سيعود إلى الحق، ولكني أخشي على الإنسان الذي لا يفكّر وإن اهتدى، لأنّه سيكون كالقشة في مهب الريح).