د. محمد عبدالله العوين
ما الذي قادني إلى الحديث عن الرياض القديمة؟ وماذا يجدي تذكر أحياء اندثر كثير منها ويوشك ما بقي منها على الاندثار؟ وهل يفيد الأجيال الجديدة معرفة أسماء شوارع أو أحياء أو مشاهير تلك الأجيال التي ولّت وانقرضت؟ ربما يصدمني قارئ كريم بمثل هذه التساؤلات؛ ولكنني سأجيبه وعلى الفور مقدراً وعيه بالفارق الثقافي والعلمي والحضاري بين الماضي القريب والحاضر المعاصر، ومتشدداً في ضرورة الاهتمام بالتاريخ الاجتماعي والأثري والعمراني بتفاصيله الدقيقة؛ فمن لا ماضي له لا حاضر له، وليس أشد خطورة وأبلغ ضرراً وأفدح مصيبة من الانقطاع الثقافي والمعرفي بين الأجيال، وهو ما نرى شيئاً منه - مع الأسف - جلياً في ثقافة أبناء هذا الجيل ممن تتراوح أعمارهم بين الخامسة عشرة والخامسة والعشرين تقريباً.
نحن نتجه اتجاهاً قوياً نحو التحديث؛ وعلى الأخص في السنوات الأخيرة، وهو خيار لا مناص لنا منه، ويدعو إليه كل مفكر عميق التفكير وكل مخلص محب لوطنه، ومن يعيش في الماضي فقط سيجد نفسه يوماً في عزلة عمّا حوله وكأنه بين أسوار حصن مغلق لا نوافذ له يمكن أن يشرق عليه منها شعاع من نور، بيد أن هذا الاتجاه التحديثي الضرورة الذي نلح عليه بقوة ليس من الخير أن يفهمه بعض أبناء الجيل أنه لن يتحقق إلا بالانصراف عن تاريخ الأجداد والآباء، أو أن يُنظر إلى تاريخنا الاجتماعي من عادات وتقاليد ولهجات وملابس وطرائق عيش نظرة ازدراء وسخرية. ومن مظاهر هذه الرؤية القاصرة عند من أخذتهم موجة الحداثة الغربية تنكرهم لكثير من العادات الاجتماعية الحسنة وعدم تمسكهم بسمات الشخصية العربية الأصيلة، وعلى الأخص في الملابس التي هي السمة المميزة والمظهر العام الذي ينبئ لأول وهلة عن الشخصية، وأعني ما يلحظه كثيرون منا على نسبة غير قليلة من أبناء الجيل الجديد من تنكر للملابس العربية وانصراف عنها إلى الملابس الأوربية، أو التحدث بكلمات إنجليزية في الحياة اليومية دون ضرورة لذلك، أو التفاخر بالتقاليد الغربية مهما كان بعضها غير جيد أو غير مناسب لنا مما يعبّر عن هزيمة نفسية وحضارية في وجدان من يفعل ذلك. مررت أيام العيد في جولة على شوارع قديمة كانت لي فيها ذكريات قبل أربعين عاماً وتداعت الخواطر والمشاعر بين شارع هجره أهله وحي مزقته البنايات الجديدة ولم يبق منه إلا بقايا بيوت مهدَّمة متداعية وقلت في نفسي كم من متأوه مثلي يمر على الديار!
ربما يأتي يوم ولا أحد يعرف ما هو الثميري أو الصفاة أو جبره أو القري أو دخنة أو مليحة أو أم سليم أو ثليم أو شارع الوزير أو الخزان أو صياح أو الحبونية أو خنشليلة أو سكيرينة أو الطويلعة أو العجلية أو الظهيرة أو عتيقة أو العطايف أو عليشة أو العود أو الفوطة أو معكال أو المرقب أو منفوحة. لذلك أدعو إلى إقامة متحف خاص بالرياض صوتاً وصورة؛ لكي لا تدمر الحداثة ذاكرة الماضي الأصيل الجميل.