النظرية الكلاسيكية في الاقتصاد التي نادى بها مؤسسو عصر النهضة تفترض أن السوق الرأسمالية يجب أن تكون حرة!.. وقد قصدوا بذلك أن «الناتج الاجتماعي الكلي» سيزداد باطراد، مما يؤدي «تلقائياً» حسب التنظيم الاجتماعي المعتمِد على نبذ التفرّد القيصري وتعدد السلطات واستقلاليتها، إلى استمرارية تراكم الثروة وزيادة الأرباح وفرص العمل وأجور المنتجين.
عندما كان القياصرة هم المهيمنين على أوروبا، كان «الحلم» الثوري لدى الرأسمالية الناشئة في رحم ذلك النظام الإقطاعي هو تعدد السلطات واستقلالها بعضها عن بعض أو ما يُسمى «العلمانية». وذلك من أجل تحرير ما تبقى من عبيد وتحرير الفلاح «شبه العبد» المرهون بالديون المتراكمة للإقطاعي. وحالما سقط الإقطاع وتسلّم الرأسماليون السلطة حولوا السلطات التنفيذية والقضائية والتشريعية والدينية والإعلامية وغيرها، إلى مؤسسات لخدمة الرأسمال فقط. لذلك ذهبت «حرية» السوق في «خبر كان»، بل أصبحت «الحرية» للرأسمالي ينهب كيفما يشاء، وبرزت وحشية الرأسمال في اللهث وراء الربح ولو على جثث المنتجين للثروة، أي العمال الصناعيين والزراعيين وصغار ألكسبه صانعي الناتج الكلي وتراكم تلك الثروة.
«حرية» السوق الرأسمالية قبل سقوط الإقطاع كانت من أجل إغراء قوة العمل المكونة من الفلاحين بالدرجة الأولى، لترك الإقطاعي المتخلف والالتحاق بالرأسمالي الواعد، أي أن آليات السوق كانت «عفوية» بدون تدخل الإنسان - سواء كان رأسمالياً أو شغّيلاً- ولكن بعد الإقطاع «وانفراد» الرأسمالي بالسلطات أصبحت حرية للرأسمالي فقط، فهو من يحدد فرص العمل وساعات العمل وكمية البطالة وأجور العمل وغير ذلك. وهذا معناه أن «الحرية» كانت لسنّة من سنن الحياة أسمها «تطور»، فالتطور «الحر» بدون تدخل من أحد هو ما نسميه «العفوية». أما مقولة «السوق الحرة» التي يطرحها الرأسمالي مستغلاً حلم الثورة تعني إطلاق يد الرأسمال في «استعباد» البشر. ولم تحصل القوى العاملة على بعض حقوقها إلا بعد نضالات وتضحيات عظيمة منذ عصر النهضة، لتصل إلى يوم عمل من ثماني ساعات وإجازات أسبوعية وسنوية وطبابة وتقاعد وغير ذلك.
منذ بداية الخليقة وسنّة الحياة المسماة تطور تسير بشكل «عفوي» دون إعاقة، ولكن بعد نشوء الحضارة وتراكم الثروة أصبح تدخل الإنسان ضرورياً من أجل إعادة توزيع تلك الثروة، وقد كانت الثروة في البداية هي التي تخدم «المجتمع» وتطوره، ولذلك تحول المجتمع من قبائل «حرة» إلى التنظيم الهرمي لإدارة الثروة وتخزينها وإعادة توزيعها، ولكن خيانة الأمانة و»الاستحواذ» من طرف فئة قليلة على الثروة و «استعباد» بقية أفراد المجتمع هو الذي أنشأ الصراع الدامي بين الظالم والمظلوم. والذي بقي مستمراً حتى يومنا هذا مهما تغير إطاره الخارجي!. فالأنظمة العبودية والإقطاعية والرأسمالية كلها أشكال قائمة على «الاستحواذ والظلم» ولا توجد بها «عدالة» اجتماعية. وهي تعيد إنتاج التنظيم الاجتماعي شكلاً لا مضموناً للإبقاء على الاستحواذ والظلم، أي أن المجتمع أصبح هو من يخدم تراكم الثروة وليس العكس.
من بقي من مؤسسي عصر النهضة والتنوير على قيد الحياة وتلاميذهم بعد سقوط الإقطاع وبروز وحشية الرأسمال، أعادوا النظر بالمفاهيم والأحلام التي نادوا بها ووضعوها موضع الشك!. فما معنى «الوطن للجميع»؟ وما معنى «الوطن»؟ وما هو التطور؟ أو الحضارة؟ أو العدالة؟ ...الخ. واستنتجوا أن الظلم الاجتماعي ليس قدراً! وأن السلطات بأنواعها ليست إلا أدوات بيد الظالم! واتجهوا لإيجاد السبل الكفيلة «لإزاحة» الظلم عن كاهل البشر، ثم اكتشفوا أن النظام الرأسمالي زائل لا محالة، ولكن ليس «تلقائياً»! ولا بالأخلاق التي نادى بها سقراط وتلميذه أفلاطون، فالأخلاق والدين والعرف الاجتماعي والأحلام للفقير فقط، ولا أخلاق للأغنياء!.
إذا كان الرأسمال قد استطاع بعد الإقطاع إعادة تنظيم المجتمع لصالحه، فهل هذه هي نهاية «التاريخ» كما يدعي؟... أقول يدعي لأنه يقول ذلك لإدخال اليأس في نفوس القوى الثورية، ولكنه يعلم علم اليقين أنه إلى زوال. لذلك يحاول تأخير هذا الزوال إلى أجل غير مسمى!. بيد أن المجتمع ليس مكوناً من رأسماليين فقط، بل هناك غالبيةً ساحقة من المظلومين الذين يريدون لـ»أَجَلْ» الرأسمال أن يكون مسمى، بل يبذلون الغالي والنفيس في صراع دامي من أجل فتح الطريق أمام التطور وليس «التاريخ» أن يسير بمساره «التلقائي» كما حلم به عباقرة عصر النهضة.
تاريخ البشر منذ بداية الحضارة (في وادي الرافدين حوالي 9200 سنة قبل الميلاد حسب «فراس السواح»)، ليس سوى «تسجيل» لمجريات الصراع بين الظالم والمظلوم، ولذلك يمكن تزويره مؤقتاً بسهولة، بل يمكن تفسيره كل على هواه، ولكن التطور يمكن عرقلة مساره «التلقائي» فقط، ولا يمكن تزويره! والغريب العجيب أن الرأسمال الظالم المتوحش يعي هذه الحقيقة أكثر من القوى المعادية له! وهذا الأمر يحتاج إلى بحث آخر.
** **
- عادل العلي