علي الخزيم
ما أطيب قلب هذا الإنسان، وما أصفي نفسه وما أزكى فؤاده، بين جوانحه نسخة أصيلة من الحب العذري لم تُشوِّه بصدأ السنين ولم يعكرها غبار الأيام، أكسبتها رمال القصيم النقية ـ قريباً من ديار عنترة ـ وشمسها الصافية أجمل حُلَل (الُهُيام) وهو أعلى درجات الحُب وأعظمها، ويعني عند العرب مرحلة جنون التعلق بالحبيب، أعجزته كل السبل لامتلاك قلب محبوبته وكَلَّت أشعاره وقصائده تلميحاً وتصريحاً لإقناع أولئك المعترضين على الارتباط بمعشوقته، وحفيت قدماه من المسير إلى ديار الوليف والتردد بين المضارب:
(وما حب الديار شغفن قلبي
ولكن حب من سكن الديار)
أرهق عيون (أبي شرعان) تركيز النظرات وتقليب البصر عَلَّه يرمق مَن تَولَّع بها فؤاده فيحظى منها بنظرة تمنحه املاً وتُشفي غليل قلب مُتعب:
(وإذا العُيونُ تَحدّثتْ بلُغاتِها
قالتْ مَقالاً لم يَقُلْهُ خَطيـبُ)!
عشرات السنين من (الوَلَه والوَجْد) مُضحياً بكل مشاعره وميوله الطبيعية كغيره نحو الزواج وتكوين أسرة تمنحه الحب والوئام وتعينه سائر حياته، فهل تبلغ التضحية لهذا المستوى الإنساني العاطفي على حساب كل المشاعر والنزعات الغريزية التي أوجدها الله سبحانه في الإنسان؟! برأيي أن هذا الرجل الطيب كلَّف نفسه وحمَّلها ما لا تطيق من العناء الوجداني والبدني، وبلغت به (الاستكانة) وهي مرحلة من الحب يصل معها المرء المُتَيَّم حباً لحالة الذل والخضوع، يُمضي ليله سهراً وسُهاداً وتَوَجُّداً على فراق من اختاره قلبه المكلوم، يبيت مناجياً ليله إذ لا غيره يناجيه، متمثلاً قول الشاعر بالدارجة:
(يا ليل يا جامع على الود قلبين
لك عادةٍ تجمع قلوب الولايف)
وتهمس له نسمات الليل العليلة لتؤكد له مشاركتها في (وصَبِه وصَبَابته ونجواه)، وكأنها تقول:
(لا يعرف الحزن إلا كل من عشقا
وليس من قال إني عاشق صَدقا
للعاشقين نحول يُعرفُون به
من طول ما حالفوا الأحزان والأرقا)
تنبلج تباشير الصباح ليعاود المعاناة والشغف الرقيق، وينطلق بخطوات لا تسندها آمال عريضة بلقاء ذاك الطيف الرقيق ولو من مسافات يدرك القلب المُجهد مداها، ليقول بخضوع ممزوج بالكبرياء وشمم العربي الذي يقتله (الكَلَف) بمعشوقه في داخله ولا يبيحه لغيره، إلا إن ذاعت منه تأوهات شعرية هي صدى الحنين، فيرسلها أبو شرعان من أشعاره بطريق نسمات الفجر لتحملها متضامنة معه إلى المحبوب في خدره لحناً يذيب نياط القلب:
(يا أم العيون السود
خافي من الله وحِبِيني
لك مبسمٍ ليـِّنٍ ماهود
فيه الشفاء يا نظـر عينـي)!
بالنهاية؛ حتى وإن ماثل هذا العاشق سيرة من عاشوا جنون الغرام، إلا أنه ليس من المعقول أن ينقاد المرء لخوالج نفسه وميوله العاطفية ويجعلها أشبه بالمقدس الذي لا يمكن المساس به، وعدم التنازل عنها والتصميم على البقاء بانتظار تحققها والتعلق بالآمال لنيلها ولو بعد حين، إلى أن تمضي السنون ويحين خريف العمر، ولا يبقى سوى اعتصار الآلام بعد تبخر الآمال.