الرياض - خاص بـ«الجزيرة»:
يشتكي كثير من حفظة القرآن الكريم من النسيان الذي يعتريهم في حفظهم لكتاب الله تعالى، على الرغم من مجاهدة النفس وأطرها على المراجعة والتكرار، ومكابدة المشاق. وقد ولدت مشكلة النسيان لدى حملة القرآن والمقبلين على حفظه وتعلمه حالة من الهم والحزن الذي يساورهم كلما تذكروا ما وقعوا فيه.
«الجزيرة» التقت عددًا من المختصين في القرآن الكريم وعلومه، ليتحدثوا عن أسباب تلك المشكلة، والسبل المثلى للقضاء عليها
أجران اثنان
بداية يبين الدكتور/ أحمد بن علي الحريصي - عضو هيئة التدريس بقسم القراءات في جامعة أم القرى - أن أولى ما صرفت فيه الأوقات، وبلغت في معرفته الغايات، ما كان للعلم به رضىً، وللعالم به إلى سبيل الرشاد هدىً، وإن أجمع ذلك لباغيه كتاب الله الذي لا ريب فيه، وتنزيله الذي لا مرية فيه؛ لذلك ليس غريباً أن يكون القرآن شغل الناس في كل زمان ومكان طيلة القرون الثلاثة عشرة السالفة، وطيلة ما شاء أن يكون من أمد هذه الدنيا، وأن يتنافس فيه المتنافسون في شتى الميادين، ومن أمثلة تلك المنافسات، المنافسة على حفظه وتعاهده وشغل الأوقات بذلك كيف وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الماهِرُ بالقُرْآنِ مع السَّفَرةِ الكرامِ البَرَرَةِ، والَّذي يقرَؤُه يتتعتَعُ فيه وهو عليه شاقٌّ له أجرانِ اثنانِ). فمن شغل وقته بحفظ القرآن فهو في خير وأجر من الله جل وعلا فهو إما أن يكون ماهراً فهذا شأنه كما قال الإمام النووي في شرح مسلم: قال القاضي يحتمل أن يكون معنى كونه مع الملائكة أن له في الآخرة منازل يكون فيها رفيقاً للملائكة السفرة لاتصافه بصفتهم من حمل كتاب الله تعالى، قال: ويحتمل أن يراد أنه عامل بعملهم... ا.هـ
وإما أن يجد المشقة في حفظه ويتتعتع فيه ويتردد في تلاوته لضعف حفظه فهذا له أجران، أجر بالقراءة، وأجر بتعتعته في تلاوته ومشقته، وهذا الحديث يزيل الهم والحزن عن الحافظ الذي يجد المشقة في تثبيت حفظه لذا ينبغي ألا يحزن ولا ييأس ويجدّ ويعمل على تثبيت حفظه، وأفضل طريقة لتثبيت الحفظ هو تعاهده وعدم ترك قراءته ومراجعته، وأفضل ما يكون ذلك في الصلوات والخلوات، ويتذكر حافظ القرآن أن المرء إذا زادت عنايته بكتاب الله انعكس ذلك على خلقه ودينه وسلوكه، مما يكون سبباً في سعادة كاملة تثمر سكينةً واطمئناناً.
كيف لا وقد سمى الله كتابه العزيز روحاً ونوراً، فقال: جل وعلا:
وكذلك أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ ولكن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ .
وقد تكفل الله لمن قرأ القرآن الكريم وعمل بما فيه أن لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة، حيث قال جل وعلا: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى}.
مشكلة التفلت
ويقول الدكتور/ أحمد بن عبدالله الفريح -رئيس قسم القراءات بجامعة أم القرى والمشرف على مكتب إجادة للاستشارات القرآنية - أنه أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأن القرآن يتفلت من صدور حملته، وشبه سرعة تفلته بتفلت الإبل من عُقُلها، وهذا الخبر هو في الواقع تحفيز لحملة كتاب الله تعالى على مزيد العناية به، ودوام ملازمته ملازمةً تشمل جميع جوانبه تلاوةً وفهماً وتدبراً ومدارسةً واستهداءً وعلماً وعملاً، فلا تقتصر على مجرد حفظ النص واستظهار اللفظ، وتجويد الأداء، والنسيان لا يقتصر على عدم استحضار الآيات، وإنما يشمل نسيان الفهم والعمل، فقد ينسى الإنسان نفسه نَسُواْ اللّهَ فَنَسِيَهُمْ أي ترك توفيقهم، {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ} أي لا تكونوا كالذين تركوا امتثال أمره واجتناب نهيه، فلم يوفقهم لما ينجي أنفسهم العذاب، وقد ينسى العمل فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ.. أي تركوا العمل به، إن القضاء على مشكلة تفلت القرآن الكريم من حملته خاضع لسوء التصور المستقر في أذهانهم، ذلك أن طالب القرآن الكريم لا بد أن يعي أن أخذ القرآن الكريم وتلقيه لا يقف عند ختمه حفظاً عن ظهر قلب، فمن الضروري أن يفهم بأن تلقي القرآن عملية حياة مع كلام الله تعالى، تبدأ بالجلوس في حلقات، وأخذه بهدوء وروية وتؤدة (وتعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه، وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا ، فيسمعه مستشعراً ما فيه من وصف عظمة الله تعالى، فيأتي على القرآن كاملاً تالياً مجوداً متأملاً متفكراً ما فيه من آيات تخشع لها الجبال الراسيات، وتخضع لجلاله وعظمته القلوب القاسية، وفهم عظمة من تحدث به، فيمتلئ القلب إيماناً ويقيناً ورسوخاً وتعلقاً بالواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، فيعيش القارئ في ملكوت الله تعالى، يرى آيات الله في الكون، يرى عظمة كلامه، ويدلف إلى جنته، ويرى ربه رؤية إيمان ويقين وأنس بربه سبحانه وتعالى، فيزداد قرباً من كلام ربه العظيم، فلا يكاد ينفك عن كلام الله تالياً متدبراً متأملاً، يتلوه قائماً وقاعداً وعلى جنبه، فيه ليله ونهاره، في حله وترحاله، حتى يصبح من شدة شغله بكلام الله تعالى وتمثل تعاليمه، والعمل به كأنما هو قرآن يمشي على الأرض، فقل بربك كيف يتفلت كلام ربه من قلبه وعقله، وقد أخذ لبه، جعلنا الله ممن يتلوه حق تلاوته.
المواظبة على التثبيت
ويوضح الدكتور/ يحيى بن هادي عسيري - الأستاذ بقسم القراءات بجامعة نجران - أن من أسباب نسيان القرآن: الإسراف في الذنوب والمعاصي، وهما مذهبة للحفظ، ضعف مراجعة الورد اليومي للقرآن الكريم، وعدم الاستمرار عليه، عدم ضبط الحافظ للمتشابهات اللفظية للقرآن، ويعينه على ذلك الرجوع لأحد الكتب المختصة بهذا الشأن، عدم إعطاء القرآن الوقت الكافي في اليوم في ظلِّ تزاحم الأشغال. ومن أسباب القضاء على النسيان: الاعتماد والتوكل على الله في ذلك، الاعتماد الشخصي اليومي في مراجعة القرآن، واستظهاره غيباً قدر الإمكان، المواظبة على تثبيت حفظ بعض السور، والتي ورد فيها الفضائل، كسورة الكهف، والملك، الاستعانة بحلقات المراجعة، أو ببعض من اشتغل بالمراجعة ليراجع معك، تعاهده بعرضه على المقرئين الضابطين المجيدين، التكرار الدائم فهو علاج آفة النسيان، ربط الحفظ بمعاني الآيات فهو يساعد الحافظ على تسلسل الأحداث في القرآن، القراءة في نوافل الصلوات بما يُنسى فغالباً ما تزول هذه المشكلة، الالتزام في المراجعة بنسخة واحدة من الصحف؛ ليشير على أخطائه ويتعاهدها باستمرار.
تعاهد القرآن
ويقول الدكتور/ عبدالله بن محمد الجار الله - رئيس الهيئة الإشرافية للمركز الخيري لتعليم القرآن الكريم وعلومه بالمدينة المنورة ومدرس القرآن والقراءات بالمسجد النبوي الشريف - لقد كانت سير الصالحين من السلف والخلف في القراءة والختم وتعاهد القرآن ومراجعته خوف نسيانه تدل على همة عالية، ورغبة صادقة، ومحبة متناهية لهذا الكتاب العظيم، لا أدري كيف أصف أحوالهم، ولا أعلم كيف أذكر أخبارهم، إنها أخبار من نسج الخيال، كلا إنها ليست بخيال عند أهل القرآن الصادقين في محبتهم وعنايتهم بالقرآن، إنهم أدمنوا حب القرآن وتعاهده وتلاوته حتى صارت راحتهم بالقرآن، واطمئنانهم بكلام الرحمن، إن لهم مع الدنيا شأناً عجيباً، فلم تكن تعني لهم هذه الدنيا شيئاً، فإذا ما وقع شيء من تلك الدنيا في يد أحد من أولئك النخب الطاهرة فإنهم يصبحون في ضيق شديد، لا يدرون ما يفعلون، فلا تهدأ نفوسهم حتى يتخلصوا منها، إنهم قوم طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا، وعلموا أن هذه الدنيا ليست لحي وطناً، كانوا دائماً ما يتمثلون الحديث الشريف: (من شغله القرآن عن ذكري أعطيته أفضل ما أعطي السائلين).
فهذا سيد المرسلين وإمامهم، نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم كان يدارس جبريل القرآن، قال ابن عثيمين رحمه الله: ((وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يفعله مع جبريل من أجل تعاهد القرآن وحفظ القرآن))، وقال الإمام الصفاقسي في غيث النفع في وصف الصالحين وعلاقتهم مع القرآن: ((كان الصالحون لا يفترون عن تلاوته ليلاً ونهاراً حضراً وسفراً صحة وسقماً، ولهم عادات مختلفات في قدر ما يختمون فيه فكان بعضهم يختم في شهرين، وبعضهم في شهر، وبعضهم في عشر، وبعضهم في ثمان، وبعضهم في سبع، وهم الأكثرون، وبعضهم في ست، وبعضهم في خمس، وبعضهم في أربع، وبعضهم في ثلاث، وبعضهم في اثنين، وبعضهم في يوم وليلة، ومنهم عثمان بن عفان وتميم الداري -رضي الله عنهما-وسعيد بن جبير ومجاهد والشافعي، وبعضهم في كل يوم وليلة ختمتين، وهكذا كان يفعل البخاري في شهر رمضان فكان يصلي بأصحابه كل ليلة إلى أن يختم، ويقرأ في النهار ختمة يختمها عند الإفطار، ومنهم من كان يختم ثلاثاً، ومنهم من كان يختم أربعاً بالليل وأربعاً بالنهار)).
تصفية القلوب
ويشير الشيخ محمد بن عتيق الصنوي -إمام وخطيب جامع الملك خالد بالبحرين - إلى أن التوفيق بيد الله، واستحضار نعمة الله على الحافظ في أن جعل صدره مستودعاً لكتابه فيحرص على تصفية قلبه وتطهيره من الشهوات والشبهات.
الاعتناء بالوصايا النبوية في هذا الأمر مثل قوله صلى الله عليه وسلم تعاهدوا هذا القرآن ومثل قوله إنه قد طرأ علي حزبي من القرآن وإني كرهت أن أخرج حتى أتمه، كثرة السماع للقرآن فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحب أن يسمع القرآن من غيره، ومدارسة القرآن مع زملائه وأشياخه بين كل فترة وأخرى وألا يكتفي بالختمة الأولى.
وفي قصة مدارسة جبريل مع نبينا الجليل خير مثال على ذلك..
في صحيح البخاري في قصة معروفة تأمل هذا الحوار: قال معاذ لأبي موسى، كيف تَقرَأُ القرآنَ؟ قال أتَفَوَّقُه تَفَوُّقًا، قال: فكيف تَقرَأُ أنت يا مُعاذُ؟ قال: أنامُ أولَ الليلِ، فأقومُ وقد قضَيتُ جُزئي منَ النومِ، فأَقرَأُ ما كتَب اللهُ لي، فأحتَسِبُ نَومَتي كما أَحتَسِبُ قَومَتي.
نستفيد من هذا أن لكل أحد طريقته في مراجعة القرآن.. فأبو موسى يوزع مراجعته على اليوم، ومعاذ يقرأ حفظه في وقت واحد.
وإن مما يشتت حافظ القرآن عن مشروع حياته هو أن يتحول عن طريقه الذي اختاره الله له فيتحول إلى محيي ليالي من بلد إلى بلد، فبدلاً من أن يقصده الناس للصلاة خلفه صار هو الذي يقصدهم إلا من رحم الله.. أو يتحول إلى منشد أو ممثل أو محلل وناشط.. فيصبح وقد شغل قلبه بغير القرآن ولم يبق معه إلا أواخر سورة البقرة وسورة الحشر ووجه من سورة ق وسورة الملك والقيامة والطارق...!!!.
التعاهد المستمر
ويؤكد الدكتور/ محمد بن أحمد برهجي -أستاذ القراءات بكلية القرآن الكريم بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة - أن الله عز وجل قد تكفل بحفظ كتابه الكريم فقال تعالى إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ الحجر آية (9). وعصمه من لغو الشياطين كما قال تعالى: وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ * وَمَا يَنبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ * إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ الشعراء آيات (210-212).
وأثنى الله تعالى على من تلا كتابه وعمل به بقوله: إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ فاطر آية (29).
والقرآن الكريم يتفلت من الصدور ولاشك أن النسيان في الإنسان فطريّ، وما سُمّي الإنسان إلا لنسيه، ومن الأسباب أيضاً ابتلاءُ الله وامتحانه لقلوب العباد؛ لكي يتميز الفرق بين القلب المتعلق بالقرآن المواظب على تلاوته، والقلب الذي تعلّق به وقت الحفظ ثم انصرفت همته عنه.
فينبغي لحافظ القرآن أن يتعاهده باستمرار وينقطع للمراجعة الدائمة لحفظه، ولقد حث رسول الله صلى الله عليه وسلم على تعاهد القرآن خشية النسيان فروى مسلم في صحيحه عن أبي موسى رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تعاهدوا هذا القرآن فوالذي نفس محمد بيده لهو أشد تفلتاً من الإبل في عقلها).
ومما يساعد على تثبيت القرآن في الصدور ما يلي: تلقي القرآن من لدن المشايخ المبرَّزين وأخذ السند والإجازة عنهم، والجلوس لتعليم كتاب الله تبارك وتعالى وإقرائهِ، والقيام به في الصلاة وتلاوته فيها وخصوصاً قيام الليل، وأيضاً إمامة المسلمين في المساجد وخاصةً صلاة التراويح والتهجد كل عام، والمشاركة في المسابقات القرآنية سواءً المحلية أو الدولية، وكتابة المصحف بخط اليد مع اعتماد خطّ المصحف الشريف ورسمه.